قضايا وآراء

أفكار حول "اليسار الاجتماعي" في تونس

عادل بن عبد الله
"هوية ملتبسة يصعب تحديد موقعها "المبدئي" في مستوى المشهد العام أو في مستوى المشروع المواطني الذي تتموضع ضمنه"التواصل الاجتماعي
"هوية ملتبسة يصعب تحديد موقعها "المبدئي" في مستوى المشهد العام أو في مستوى المشروع المواطني الذي تتموضع ضمنه"التواصل الاجتماعي
مهما اختلفنا في توصيف ما حصل في تونس بين 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/ يناير 2011، فإن ما أعقب هروب المخلوع إلى السعودية كان انبثاق زمن وحقل سياسيين مختلفين عما عرفته البلاد خلال فترتي الحكم الدستورية والتجمعية، أي منذ الاستقلال "الصوري" عن فرنسا وظهور ما سُمّيَ بـ"الدولة الوطنية" أو الدولة-الأمة.

ففي "عشرية الانتقال الديمقراطي" تخلّص التونسيون من مفهوم "الحزب الحاكم" ومن النظام الرئاسوي، كما نجحوا "مؤقتا" في هندسة فضاء عام لا تحتكره الدولة ولا تحدد الأجهزة الأمنية وأذرعها الأيديولوجية سقفه، وهو ما هدد وجوديا مصالح النواة الصلبة للحكم وخلخل جزئيا البنية التسلطية ذات الجوهر الريعي-الجهوي-الزبوني والاستعارة الوطنية الزائفة. ولكنّ استثنائية التجربة التونسية ورمزيتها في المجال العربي-الإسلامي، بالإضافة إلى استصحاب أغلب الفاعلين الجماعيين لوعي مفوّت ولا علاقة له بمشروع "التأسيس" أو التجاوز الجدلي لميراث دولة الفساد والاستبداد، فتح المجال أمام منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الأجانب لإفساد/إفشال الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا. وليس أدل على هشاشة المنجز الديمقراطي من تهاوي "الفاصلة الديمقراطية" أمام إجراءات الرئيس قيس سعيد يوم 25 تموز/ يوليو 2021، والتمكين لمشروع "تصحيح المسار" باعتباره مجرد واجهة جديدة للنواة الصلبة للحكم، وحليف موثوق لمحور التطبيع والثورات المضادة.

إذا كان لحركة النهضة وحلفائها دور غير مباشر في إنضاج الشروط الموضوعية والفكرية لإجراءات الرئيس، خاصة بعد خيار التوافق مع المنظومة القديمة بشروطها اللاوطنية واللا شعبية، فإن دور اليسار كان مقصودا في تلك العملية منذ انتخابات 2019 وما تلاها

بصرف النظر عن موقفنا من "تصحيح المسار" ومن سردية "التحرير الوطني" ومن مشروع مقاومة الخطرين الداهم والجاثم، وآليات تحقيق ذلك، فإن الفهم الموضوعي لقابلية الارتكاس إلى ما قبل "الفاصلة الديمقراطية" لا يمكن أن يحصل دون الإقرار بوجود أسبابه الأعمق -أي أسبابه البنيوية- في مسار الانتقال الديمقراطي ذاته وفي الرهانات/التموقعات الحقيقية -لا الخطابية- لأهم الأجسام الوسيطة الفاعلة فيه.

فـ"الإجراءات الرئاسية" وما تلاها من تحويل لحالة الاستثناء إلى مرحلة "تأسيس ثوري جديد" لم تنجح بقوة ذاتية؛ بقدر ما نجحت بضعف من استهدفتهم وعجزهم عن استشراف الخطر المهدد للديمقراطية التمثيلية في مرحلة أولى (منذ طرح الرئيس لمشروع الديمقراطية المباشرة خلال حملته الانتخابية، بل منذ تصريحه الشهير سنة 2013 بعد اغتيال الحاج محمد براهمي، حيث دعا إلى رحيل "الجميع" بحكومتهم ومعارضتهم)، ثم عجزهم عن تقديم سردية معارضة وذات مصداقية شعبية في مرحلة ثانية (خاصة بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021).

وإذا كان لحركة النهضة وحلفائها دور غير مباشر في إنضاج الشروط الموضوعية والفكرية لإجراءات الرئيس، خاصة بعد خيار التوافق مع المنظومة القديمة بشروطها اللاوطنية واللا شعبية، فإن دور اليسار كان مقصودا في تلك العملية منذ انتخابات 2019 وما تلاها؛ من إسقاط البرلمان لحكومة السيد الحبيب الجملي ثم ظهور ما سُمى بحكومة الرئيس بعد فقدان الحزب الأغلبي-أي حركة النهضة- لحق ترشيح رئيس الوزراء، وانتقال حق الترشيح لقصر قرطاج.

ليس يعنينا في هذا المقال التذكير بدور كل أطياف اليسار -بل أغلب مكونات ما يُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية"- في إفشال الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، بل يهمنا فقط الاشتغال على دور طيف محدد يتعرف ذاتيا بالانتماء إلى اليسار الاجتماعي أو الديمقراطية الاجتماعية. ورغم صعوبة إيجاد تعريف جامع مانع لليسار الاجتماعي، بحكم تعدد أطيافه ومجالات تدخله في الفضاء العام، فإننا نستطيع أن نجازف ونقدم له التعريف التالي في المجال التونسي: إنه ذلك الطيف الذي يستدعي المرجعية اليسارية -وهي في الأغلب مرجعية ماركسية- بصورة غير نسقية، ولا يحافظ عمليا في مستوى مقولاتها الصلبة إلا على مبادئ الدفاع عن العلمانية والعدالة الاجتماعية والحقوق/الحريات الخاصة والعامة، ومقاومة الفساد الممأسس/المقنّن دون أن تتضخم عنده القضايا الهوياتية، ودون أن يطرح نفسه -على الأقل في مستوى أدبياته التأسيسية ومواقفه الكبرى- حليفا موضوعيا أو جسما وظيفيا في خدمة النواة الصلبة للحكم ووكلائها. ولا شك عندنا في أنّ الأغلب الأعم من أطياف اليسار لن تجد حرجا في الاندراج في هذا التعريف، خاصة تلك الأطياف التي عارضت منظومة الفساد والاستبداد قبل الثورة أو بعدها وتقاطعت موضوعيا -بصورة تبين أنها تكتيكية لا استراتيجية- مع أبرز ضحايا المنظومة الحاكمة، أي الإسلاميين، سواء في ما يعرف بجبهة 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 أو خلال حكم الترويكا بعد الثورة.

رغم ظهور سردية "اليسار الجديد" باعتبارها "طريقا ثالثا" بين الليبرالية المتوحشة والشيوعية منذ خمسينات القرن الماضي، فإن اليسار الاجتماعي أو الديمقراطية الاجتماعية في تونس لم تستطع أن تكتسب هوية واضحة ونهائية سواء قبل الثورة أو بعدها. وإذا كان اليسار بكل مكوّناته وبسرديته القائمة على التناقض الرئيس مع الإسلاميين (خاصة التناقض مع حركة النهضة) لم يستطع أن يفوز في انتخابات المجلس التأسيسي بأكثر من 11 مقعدا موزعة بين 7 أحزاب، فإن خطابات اليسار الاجتماعي أو الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (خاصة أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل والحزب الديمقراطي التقدمي) كانت أكثر جاذبية للناخب التونسي، مما جعلها تحتل المراتب الثانية والرابعة والخامسة على المستوى الوطني. وكان فوز العريضة الشعبية تحت قيادة السيد الهاشمي الحامدي بالمرتبة الثالثة في انتخابات المجلس التأسيسي حدثا غير متوقع، ولكنه أبرز قوة الخطاب الشعبوي وصلابة الشبكات/العصبيات الحزبية والجهوية التقليدية، وهو ما سيتم تفعيله بنجاح في مناسبات لاحقة لخدمة واجهات جديدة للمنظومة القديمة.

من الناحية النظرية، كانت "الحالة الثورية" فرصة تاريخية لإنجاز ميثاق وطني أو مشروع مواطني متخارج مع منظومة الاستبداد والفساد، ومتجاوز للكراسات الأيديولوجية والقضايا الصغرى (حرب الزعامات والتموقعات وأمراض "مصفوفات المشاعر"، وميراث ميراث التنوير "المشوّه" واللائكية المدجنة لخدمة ثالوث الزعيم-الحزب-الأمة)، ولكنها واقعيا أظهرت أن أعظم نجاحات المنظومة السابقة كان نقل أمراض السلطة إلى معارضيها بمن فيهم أشدهم مبدئية وصلابة في مواجهة آلتها القمعية. فالسيد نجيب الشابي اختار "المعارضة" في سياق تأسيسي لا يمكن أن ينجح بمفهوم المعارضة لنظام سياسي ثابت ومستقر. أما السيد حمة الهمامي فقد اختار العودة إلى مربع اليسار الوظيفي ضمن جبهات سياسية كان عدوها الأصلي هو "الخوانجية"، وكان تناقضها الأساسي مع من يهدد "النمط المجتمعي"؛ لا مع من هندس ذلك النمط على مقاس دولة الاستبداد والفساد. أما حزبا المؤتمر والتكتل فقد اشتغلا بمنطق المحاصصة مع حركة النهضة، مع ميل المؤتمر إلى المحافظة على مسافة من اليسار ومن ورثة المنظومة القديمة، وميل التكتل إلى التقاطع معهم في اللحظات المفصلية من عشرية الانتقال الديمقراطي.

بعد انتخابات 2019 برز التيار الديمقراطي -وهو حزب ديمقراطي اجتماعي يقوده السيد محمد عبو- باعتباره القوة البرلمانية الثالثة بعد حركة النهضة وحزب قلب تونس بقيادة السيد نبيل القروي. وكان التيار في المستوى النظري هو أبرز ممثل للطريق الثالث، ولكنّ وزنه الانتخابي وعمقه الشعبي لم يسمحا له بأن يكون مركز الفعل السياسي، مما جعله أمام خيارين استراتيجيين لكل منهما نتائج متباينة: إما التحالف مع حركة النهضة سواء بدخول الحكومة المقترحة أو على الأقل تمريرها أمام البرلمان، وإما التحالف مع ما يسمى بـ"القوى الديمقراطية" (خليط من ورثة التجمع واليسار الماركسي والقومي) وإسقاط تلك الحكومة تمهيدا لنقل حق الترشيح إلى رئيس الجمهورية. وقد اختار التيار الطريق الثاني برفع سقف المطالب من حركة النهضة ثم بالتحالف مع "القوى الديمقراطية" لمنع تمرير حكومة السيد الحبيب الجمني أمام البرلمان. وكان التيار الديمقراطي من أبرز المدافعين عن "حكومة الرئيس" التي عُينت مرة أولى من خارج ترشيحات الأغلبية النيابية (حكومة السيد إلياس الفخفاخ) ثم من خارج ترشيحات البرلمان برمتها (حكومة السيد هشام المشيشي). ولكنّ ذلك كله لم يجعل التيار يغادر مربع التناقض الرئيس مع حركة النهضة، مما حوله إلى أحد أعمدة "الاستئصال الناعم" (إخراج النهضة من مركز الحقل السياسي) المتحالفة موضوعيا مع سردية "الاستئصال الصلب" (تحويل النهضة إلى ملف أمني-قضائي).

اليسار الاجتماعي هو صوت يساري لم يستطع أن يتخلص من منطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، وهو لذلك عاجز عن طرح الصراع في مداره الحقيقي لا في مداراته المشتقة/ الزائفة، أي عاجز عن الصراع ضد منظومة "الاستعمار الجديد" بصرف النظر عن واجهاتها/ سردياتها السياسية "الوظيفية" والخاضعة لهيمنة النواة الصلبة ذاتها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا

قد يعترض علينا معترض على إدراج التيار الديمقراطي في سردية "الاستئصال الناعم"، فالتيار لم يحصر نقده في حركة النهضة بل انتقد معها ورثة المنظومة القديمة، خاصة نداء تونس وشقوقه في مرحلة التوافق، كما أن التيار كان من أبرز الداعين إلى مقاومة الفساد الممأسس والتصدي للمال السياسي الفاسد بصرف النظر عن "أيديولوجيا" المستفيدين منه. ولكن هذه الاعتراضات على وجاهتها تحجب جزءا مهما من الحقيقة، فالتيار الديمقراطي لم يساند كشف الوضعية المالية لاتحاد الشغل، ولم يكن في الصفوف الأولى من دعوات التثبت في تمويلات المجتمع المدني وعلاقتها بالمصالح المادية والرمزية لبعض الدول المتنفذة في صياغة القرار السيادي التونسي. كما أن التيار لم يُعرف بأي دعوة جدية لمراجعة العلاقات اللا متكافئة مع الدول الغربية، خاصة منها فرنسا. ولا يذكر التونسيون للتيار موقفا نقديا من استراتيجيات الاستئصال الصلب التي قادها اليسار الوظيفي في ملفات "مشبوهة" أو على الأقل ملتبسة، مثل التسفير والجهاز السري والاغتيال السياسي وغيرها. ولكن التونسيين يذكرون جيدا أن التيار كان من أبرز الداعين إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور ومن أبرز المساندين لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، قبل أن يتخذ منها مسافة نقدية عندما تبين له أن "تصحيح المسار" لا يتحرك في أفق انتظاره.

إذا كان "الإسلام الديمقراطي" مجرد أفق نظري أو مشروع سياسي لم يجد أي مقبولية عند الشركاء السياسيين في تونس وخارجها، ولم تنجح النهضة في تحويله من مجرد شعار إلى محدد جوهري للفعل السياسي، فإن "اليسار الاجتماعي" أو الديمقراطية الاجتماعية هي مجرد "دعوى" لا مصداق لها إلا في مستوى آحاد الأفراد. فاليسار الاجتماعي -على مستوى الأجسام الوسيطة- هو هوية "ملتبسة" يصعب تحديد موقعها "المبدئي" في مستوى المشهد العام أو في مستوى المشروع المواطني الذي تتموضع ضمنه.

ولا شك عندنا في وجود أصوات فردية تمثل اليسار الاجتماعي داخل الأجسام الوسيطة وخارجها، ولكنها أصوات مهمشة وذات "فاعلية" محدودة. فالصوت المهيمن على ما يسمى باليسار الاجتماعي هو صوت يساري لم يستطع أن يتخلص من منطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، وهو لذلك عاجز عن طرح الصراع في مداره الحقيقي لا في مداراته المشتقة/ الزائفة، أي عاجز عن الصراع ضد منظومة "الاستعمار الجديد" بصرف النظر عن واجهاتها/ سردياتها السياسية "الوظيفية" والخاضعة لهيمنة النواة الصلبة ذاتها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

خبر عاجل