ملفات وتقارير

ذاكرة المجازر وسؤال الغد.. كيف يواجه أيتام غزة الحياة بلا سند؟

يواجهون مصيرهم الموجع لوحدهم أو مع أقارب قد يستهدفهم الاحتلال الإسرائيلي- جيتي
يواجهون مصيرهم الموجع لوحدهم أو مع أقارب قد يستهدفهم الاحتلال الإسرائيلي- جيتي
"هاتولي أي شيء من رائحة أمّي" هكذا نطق طفل، وهو يقف على أنقاض منزلهم الذي قصفه جيش الاحتلال الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، بقلب قطاع غزة المحاصر؛ بعينين مسّهم الرّعب، وبقلب اغتصبت طفولته باكرا، ظلّ يرفع مطلبه الصّارخ، أمام مرأى العالم، وصمته.

على غراره، أطفال كُثر، وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحايا، يواجهون مصيرهم الموجع، لوحدهم، أو مع أقارب قد يستهدفهم الاحتلال الإسرائيلي، كذلك، ليُصبحوا يتامى، فرادى، دون مأوى، وبمستقبل غير واضح الملامح؛ في خضمّ حرب هوجاء، انتهكت فيها كافّة القوانين الدولية والمواثيق المرتبطة بحقوق الإنسان. 

وفقا لبيانات وزارة الصحة في غزة فإنّ 35 ألف طفل قد فقدوا والديهم أو أحدهما خلال عام، بين 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ونفس اليوم والشهر من عام 2024؛ فيما ارتفعت أرقام الشهداء خلال العام الجاري، بالتّالي فإنّ أرقام اليتامى الجدد ستكون أكثر. 



هذا غيث.. 
غيث، الناجي الوحيد من أسرته، مكلوم، يعيش اليوم مع جدّته وخاله في أحد مخيمات النزوح بمنطقة النصيرات وسط قطاع غزة. تحاول الجدة والخال أن ينسياه ما حدث لأسرته عبر تشجيعه على اللعب مع أطفال آخرين، بين الخيام المُهترئة، في محاولة لتخفيف وطأة الذكريات الأليمة التي تراوده أحيانا، وتحوّلت لحرارة مُرتفعة في الليل مرفوقة بكوابيس وخوف لا يفارق جسده الصغير.

يقول الخال في حديثه لـ"عربي21": "بعد معرفتنا بالفاجعة، لم يصدّق عقلنا في البداية، فحاولنا جاهدين الاتصال بأبيه وهو زوج أختي، لكنه لم يرد، وهاتف أختي مغلق، وجارهم الذي هو صديقي، كذلك لا يجيب. تأكّدنا من الخبر الصاعق. كان الجميع قد استشهدوا، أصبحوا جميعهم أشلاء؛ وغيث أخرج من تحت الأنقاض".  

إلى ذلك، الأطفال في قلب القطاع المُحاصر، يواجهون، قسرا، ظروفا معيشية كارثية، بسبب فقدان معيلهم من الآباء، أو بسبب نقص المياه والغذاء والدواء. ويعيش ما يناهز 1.9 مليون شخص، أكثر من نصفهم أطفال، في ظروف مزرية داخل المخيمات، إذ تتضاعف معاناتهم اليومية مع استمرار العدوان القاسي عليهم جميعا.

ويضيف خال غيث، عبر اتّصال عبر موقع التواصل الاجتماعي "انستغرام" بالكاد كان يوصل الصوت، جرّاء صوت الزنّانة الذي لم يتوقّف طيلة مدّة التواصل: "الأطفال في غزة إن لم يقتلهم رصاص الاحتلال الإسرائيلي المُباشر، يستهدفهم الفقد والوجع، ويعيشون بذاكرة مليئة بالمشاهد المروعة"، مردفا: "ابن أختي رأى والده دون رأس، بأي نفسية يواصل حياته؟".

قصص مثل غيث، باتت تتكرّر اليوم في قطاع غزة بشكل مأساوي، حتى أصبحت عنوانا للواقع اليومي، ووجها آخر صعب، لحرب لم تكتفِ باستهداف الأحياء، بل خلّفت جيلا جديدا من الأيتام، المنكسرين، الذين لا سند لهم سوى ذكريات موجعة، وأسماء باتت من الماضي.

أيضا، أطفال غزة الأيتام، عدد منهم يواجه واقعا مريرا، آخرا، فمنهم الذي أصبح يعيش بإعاقة دائمة في أطراف جسده، ومنهم من أصيب بحروق، في حين أن بعضهم يعيش بذكرى مُفزعة جرّاء انتشاله من تحت ركام منزله المدمر.

أيتام غزة.. ليسوا أرقاما
تعيش عدد من العائلات الفلسطينية، رغم الحرمان والواقع المُعاش الصعب، على أمل تعويض ما أمكن، من ملامح الأمان المفقود للجيل الجديد من الأيتام؛ مثل السيدة المعروفة باسم "أم خليل" وهي زوجة شهيد وأم لشهيدين (خليل وأحمد)، في الستّين من عمرها، أقدمت على احتضان أربعة من أبناء أقاربها المستشهدين، في قصف استهدف منزلهم المتواجد بقلب خان يونس.

وعبر تصريحات إعلامية، أوضحت رئيسة مجلس إدارة صندوق إغاثة أطفال فلسطين، فيفيان خلف: "كان الهجوم الإسرائيلي المستمر في غزة، قاسيا على الأطفال الذين يشكلون 47 في المئة من سكان القطاع، حيث قتل ما لا يقلّ عن 14 ألفا منهم ضمن ما يقرب من 38 ألف شهيد، كما بتر أحد الأطراف على الأقل لأكثر من 1500 طفل"؛ وهو ما رصدته "عربي21" عبر تصريحات متفرٍّقة من قلب القطاع المحاصر.

إلى ذلك، بين الأنقاض، يحمل الأطفال صور آبائهم، ينامون بجوار ذكريات أمهاتهم، ويكافحون من أجل الاستمرار؛ بينما يؤكّد الغزّيين عبر منشورات مُتسارعة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي: "هم ليسوا أرقاما في تقارير المنظمات؛ بل إنّهم وجوه، وأسماء، وأحلام بسيطة: أن يعودوا إلى بيوت لا تُقصف، ومدارس لا تُغلق، وأحضان لا تُغتال".

وبحسب دراسة صادمة أجراها مركز التدريب المجتمعي لإدارة الأزمات في غزة، فإن 96 في المئة من الأطفال في غزة يشعرون بأن موتهم وشيك، بينما أعرب 49 في المئة عن رغبتهم في الموت. ما يكشف بالملموس عن واقع مرير، ما جعل عام 2024 هي أسوأ الأعوام على الإطلاق بالنسبة للأطفال في الصراعات في تاريخ اليونيسيف.


أي إجراءات للتبنّي؟
تفاقمت التحديات القانونية والاجتماعية، وتعدّدت، لتتجاوز الأثر النفسي، حيث إنّ مجمل الأطفال باتوا كأنّهم مجهولين الهويّة إذ لم يُعرف لهم أقارب، وتعثّرت إجراءات التبني أو الكفالة القانونية جرّاء ظروف الحرب وعدم عمل المحاكم بشكل طبيعي. ليبقى مصير العشرات منهم معلّقا، دون رعاية رسمية، ودون مدرسة، ودون منزل.

كذلك، تكمن الكارثة المُتواصلة في غزة: "ليس في أنّهم يعانون الفقد النفسي أو العاطفي، فقط، بل في كون الأيتام اليوم يواجهون أيضا غيابا تامّا للأنظمة الرّاعية، حيث دُمّرت مراكز رعاية الأيتام، وتوقفت جُل الخدمات، وتحوّل جزء من دور الرعاية إلى ملاجئ للنازحين، تاركة الأطفال دون تعليم، أو رعاية صحية، أو حتى مأوى ثابت".


وقالت المديرة التنفيذية لليونيسيف، كاثرين راسل: "ما يتعرض له أطفال غزة يُعد من أسوأ الانتهاكات التي شهدناها في القرن الحالي.. آلاف قُتلوا، وآلاف يُعانون، ولا أحد يحاسب"؛ مردفة: "يعيش هؤلاء الأطفال في ظل تهديد ثلاثي: القصف، المرض، والجوع. وأصبح اليتم عنوانا لجيل كامل".

وأفرزت الحرب الهوجاء التي يواصل عليها الاحتلال الإسرائيلي، على كامل قطاع غزة المحاصر، منذ العامين، مصطلحا جديدا يتمّ تلخيصه بـ"دبلو سي إن إس إف" (WCNSF)، ويعني: "طفل جريح ولا عائلة على قيد الحياة لرعايته".


ومع تزايد أعداد الأيتام، انطلقت عدد من المبادرات الفردية (أسر من غزة) ومؤسساتية (جمعيات فلسطينية وأخرى عربية) تحاول أن تسدّ هذا الفراغ، ولو بشكل جزئي؛ من قبيل: قرية الوفاء لرعاية الأيتام، التي تحتضن نحو 200 طفل، وتقدم لهم خدمات التعليم والتأهيل والدعم النفسي والترفيه.

اظهار أخبار متعلقة


أي مؤسسات موثوقة؟
في سياق بحثها، رصدت "عربي21" البعض من المؤسسات التي تتكفّل بالأطفال الأيتام من غزة، وتحرّت عن جدّيتها من عدد من الغزّيين أنفسهم؛ البداية من جمعية "إنعاش الأسرة" التي تعتبر من خلال برنامجها لرعاية الأطفال، أنّ: "الإنفاق تجسيدا عمليا وحقيقيا للتكاتف الإنساني الأخلاقي، حيث يجمع الأصدقاء من مختلف أنحاء العالم لضمان غد أفضل لأطفال فلسطين".

وجوابا على سؤال: "من هو الطفل المستفيد؟" تجيب الجمعية، بالقول: "هو طفل فلسطيني يعيش في ظروف صعبة واستثنائية من الفقر أو الفقدان أو الإعاقة أو الاحتياج الدائم للرعاية الطبية".

أيضا، في ظل الظروف الإنسانية القاسية التي تعصف بكامل قطاع غزة المحاصر، والارتفاع المقلق في أعداد الأيتام، تم إنشاء ما يُعرف بـ"قاعدة بيانات وطنية لأيتام الحرب" بهدف: "توحيد الجهود الإغاثية وتوجيه المساعدات والخدمات بكفاءة وفعالية، ما يضمن وصول الدعم إلى مستحقيه بناء على معلومات دقيقة وموثوقة".

وجوابا على سؤال "كيفية تسجيل وتحديث بيانات الأيتام في غزة؟"، فإنّها عبر الرابط "يتوجّب على الأسر تسجيل وتحديث بيانات أبنائهم الأيتام بدقة"، مع: "إرفاق صور واضحة وملونة للوثائق التالية: شهادة وفاة الأب، صورة هوية الأم، شهادة ميلاد الطفل، وصور لوثائق المسؤولية مثل (الولاية أو الوصاية)".

بين الركام والرماد، لا يصرخ أطفال غزة طلبا للحلوى أو اللّعب، بل إنّهم يبحثون عن أمهاتهم وآبائهم أو كل قريب لا يزال على قيد الحياة؛ عن دفء بيت اختفى، عن صوت لم يعد يُسمع. اليُتم هنا في قلب القطاع المحاصر والمدمّر، ليس حالة اجتماعية فقط، بل هو: جرح مفتوح في ذاكرة جيل بأكمله، يتيم من الأم أو الأب، أو هما معا، ويتيم من العالم، ما لم يتحرّك لإنقاذ ما يُمكن اليوم إنقاذه.
التعليقات (0)