قضايا وآراء

الانتماء للحقيقة

محمد صالح البدراني
الإسلام ينفي الإذلال عن الذين يفكرون ويقررون وإنما هو يدعو للتفكير كي تصل إلى فهم يقودك إلى الانتماء للحقيقة وليس امتلاكها..
الإسلام ينفي الإذلال عن الذين يفكرون ويقررون وإنما هو يدعو للتفكير كي تصل إلى فهم يقودك إلى الانتماء للحقيقة وليس امتلاكها..
ماهية الحقيقة

عرف أرسطو طاليس الحقيقة بأنها "قول ما هو كائن أنه كائن، وما هو غير كائن أنه غير كائن". هذا يعني أن الحقيقة تكمن في التوافق بين الحكم الذهني والواقع الموضوعي، وعرف هيكل الحقيقة كعملية ديناميكية تتكشف عبر التاريخ أو التطور الفكري.

وعند مقارنة التعريفين نجد اختلافا في معنى الحقيقة ما بين اعتبار الواقع هو الحقيقة وهذا قد لا يكون فعلا عندما تسيطر عوامل السلبية على المجتمع وتأتي بشيء لا يمثل حقيقة الصواب في السلوك بل يأتي بالظلم والاستبداد، ولو نظرنا إلى تعريف هيكل فهو يجعل الحقيقة نسبية فلا تكاد تثق بشيء أنك وصلت غايته، ولعل الفلاسفة الآخرين يعرفون الحقيقة بين هذين الاتجاهين بن المنظور والمنتظر.

امتلاك الحقيقة:

عندما نأتي إلى الحقيقة الراسخة نجد أيضا تعاريف متعددة قياسا لدرجة ثقافة ومعرفة الفرد فالمعرفة ديناميكية وقابلة للتطور.

الفلاسفة مثل أفلاطون وكانط ناقشوا هذا التمييز، حيث رأى أفلاطون أن المعرفة الحقيقية تستند إلى العقل والحقائق المطلقة، بينما اعتبر كانط أن المعرفة محدودة بإدراكنا البشري، ونجد هنا أمرا مهما، فأفلاطون يعبر عن إرهاصات امتلاك الحقيقة بامتلاك المعرفة.

أما كانط فهو يعبر عن الفهم للمعلومة وهو في الحقيقة ما يقوله الفكر الإسلامي من أن نقطة الفهم والإدراك تبدأ معرفة الحقيقة وليس بأن الأصل حقيقة، فالإسلام هو حقيقة راسخة ولاشك، لأنه متأصل بكتاب ولكن اعتبار الإنسان المسلم فهمه هو الحقيقة هنا ينتقل إلى الجمود والتعصب، وهذا وحده سمة نفي معرفة الحقيقة ناهيك عن أصلها.. فأصل الرسالة مخاطبة المنظومة العقلية وليس استعبادها ودعوتها للتفكير وليس الانضباط بمعلومات إملائية تلقينية لا تسأل عنها كيف أتت، وتصور الإنسان وكأنه ماكنة بيد خالقه مستعبد بذلة، بينما الإسلام ينفي الإذلال عن الذين يفكرون ويقررون وإنما هو يدعو للتفكير كي تصل إلى فهم يقودك إلى الانتماء للحقيقة وليس امتلاكها.. فأنت في وطن الفكر الذي تحمله وهو فيك بما تفهم منه، فمجرد إحساسك بامتلاك الحقيقة والرأي الأمثل هو مؤشر لبداية تضليلك لفكرك، لكن عبر عمّا تفهمه الآن انه فهم قابل للنظر، يرى نتشه أن ما نسميه "حقيقة" هو مجرد تفسير يعتمد على السياق الثقافي أو الشخصي.

الحقيقة هي انتماء إلى عالم البحث والتصويب والبناء وليس لرفع الأفكار أو الرؤى في التطبيقات بجمود وتعصب يصل إلى الاختلاف إن فرقت المسار خطوة واحدة، فهذا استعباد وتعطيل واحتقار للمنظومة التي كرم الله الإنسان لأجلها وجعله في اختبار عدل
هذا يتقاطع مع قول الشافعي في إقراره باحتمالية الصواب في آراء الآخرين عندما يقول إن الرأي الصائب بالدليل الأقوى وهو تحكيم لتفعيل المنظومة العقلية "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب".. وهذا رقي فكري يدل أنه سيقبل اعتناق الرأي الأفضل بالدليل والأصوب في تقدير المنظومة العقلية البشرية، هو نوع من الإثراء في التعامل المجتمعي على التفاعل مع الجديد والفهم المنضّج لقيادة مجتمع سليم، وليس أن افهم أمرا اعتبره كل الحقيقة واجبر الناس على اتباعه هذا اسميه (دين الغريزة والنزوات) لأنه لا يفهم أساس خلق الإنسان ووجوده كسلالة على الأرض بل يمنع الناس من التفكير في الطريق للوصول إلى حيث الأمان.

الحقيقة انسجامك مع إيمانك ومنهجك:

الفرنسي فولتير يقول (قد أختلف معك في الرأي ولكنى مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك) فالانسجام هنا مع حرية التعبير وليس بما تعبر ومضمون الفكر الذي تطرحه، لكن لهذا الراي الفلسفي قواعده، فليس التعبير عن الراي غاية بحد ذاته وإنما طرح الفكر الذي يفيد المجتمع أو يعبر عن تصويب للقيمة الإنسانية، فانت عندما تصوب طرحا ونصرة لقيمة فكرية فليس في هذا استبداد وإنما تموضع لأسس الحوار حول الموضوع وليس فرض الطرح الذي يصطلح عليه بالراي، والراي في الحقيقة ليس ما تقوله مرتجلا بل هو فعل عقلي ونشاط فكري فالراي أن تقدم فهما مدروسا وفق درجة المعرفة لديك، لان الراي هو نتاج منظومة العقل وهو محترم بتكريم الله للمنظومة العقلية، أما الارتجال فبواعثه المشاعر والعواطف فهو رد فعل يعالج بالتصويب والتريث والتهدئة، وما طرح فولتير من فكر يوافق احترام أهلية الإنسان وان حسابه على فكره وخياراته لله وحده كما هي نظرة الإسلام.

الحقيقة انتماء:

فالحقيقة هي انتماء إلى عالم البحث والتصويب والبناء وليس لرفع الأفكار أو الرؤى في التطبيقات بجمود وتعصب يصل إلى الاختلاف إن فرقت المسار خطوة واحدة، فهذا استعباد وتعطيل واحتقار للمنظومة التي كرم الله الإنسان لأجلها وجعله في اختبار عدل فإن أمره (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ......) وهي قيم بناءة يستحسنها لكنه تعالى لا يحجر على خيارك إن كان غير ذلك فأنت الممتحن وهذا أمر اختياري لك لتقود سلوكك فأنت المسؤول بالقرار والمتضرر من قرارك، ولذلك قال (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.. [النحل: 90]) فهو يسد نقص الإنسان من جراء الغفلة والنسيان، صيغة عدل ألزم الله به نفسه، بيد أن الأمر يصل التحذير عندما يكون الأمر هو حقوق الآخرين فيستخدم كلمة (يأمركم) لأن الحالة بها ضرر لآخرين وللمجتمع والعدالة فيه فهو يوجب العقاب وفق القوانين أو الشريعة المستنبطة لواقع مستقرأ في شدتها وتخفيفها، [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58{، فهذه الأمور قد لا تكون في مجتمع فاسد يعلوه الاستبداد ويحيّد مخافة الله وإن زعمها زعما، عنده فالله (كان سميعا بصيرا) أي هو دائما يسمع ويرى.

التعليقات (0)