عندما لا نعيد تفسير المعلومة مع المستجدات فنحن دون أن
ندري نجمد منظومتنا
العقلية ونعطلها كما فعل أبونا آدم عندما استخدمها كحافظة وليس
كمعمل لاستنباط الأفكار والفهم وتجديد
الفهم والاستيعاب، وهكذا نرى الحال الذي
وصلنا إليه حينما يخرج أناس يرتدون زيا ويسمون برجال الدين، مع أن الإسلام ليس فيه
رجال دين وكهنوت ولا لاهوت كما هي، والدخول في الأسماء والصفات وغيرها ليس من فكر
الإسلام، وتعريف منظومة معينة للحكم ليس من الإسلام، وإنما هنالك قيم ومواصفات
يحققها المسلمون لإدارة حياتهم والإعمار، أما ما يسبب الاختلاف والمناكفة فلم تأت
به الرسالة المحمدية من الإسلام، بل كانت رسالتها تحقيق الأهلية للإنسان وخياراته
ومنع الشطط من التمدد، وانحسار الظلم والباطل وكل ما ينتقص من الكرامة الإنسانية.
عندما نضع الإسلام في صندوق وقوالب، أو نقبل أن نضع
فكرنا ومنظومتنا العقلية في صندوق وقوالب تجعل منا بلا أهلية وكأننا في الأرض
لننفذ قوالب معينة، فهذا فهم خاطئ لمشيئة الله في خلقه ويسجل درجة قليلة في سلم
نجاح المنظومة العقلية.
كثير من المسلمين يقلد ولا يفهم من الإسلام إلا مما سمعه
من هنا وهناك أو قرأه في كتب أحد المشاهير، كذلك معظم الذين يسمون أنفسهم
بالعلمانيين أو الليبراليين أو غيرهم هم أصلا لا يعرفون حقا ما يدعون إليه، لكن من
الواضح أنهم أعمق جهلا بالإسلام من العمائم التي تتحدث بما ينسف الدين وفهمه، وما
بين هؤلاء وهؤلاء، تحدث الفوضى ويسكن عمل إبليس ويخرج آدم وزوجه من الجنة، فلماذا
نكرر إخفاق آدم عليه السلام؟
معضلة الحكم في الإسلام:
هذه المعضلة أتت من إخفاق منظومة العقل عند المسلمين
وليس من الإسلام نفسه أو من سيرة الرسول، بل الفهم الخطأ الذي يفسر أفعال الصحابة
وهم فاهمون للإسلام، وفهمهم واضح بما فعلوا، بل لم يفهم غيرهم بعدهم ما فهموا،
ويذهب البعض شرقا والآخر غربا بينما جوهر الفهم هو في رؤية الرسالة نفسها. والنسبة
للإسلام ما ليس فيه أحيانا يصبح شرعا ما يخالفه نتيجة عدم النأي بالنفس من رجال
الدين، فاضحت مثلا ولاية التغلب عملا شرعيا مقلدا معتمدا، وهي ليست من الإسلام ولا
تمت للإسلام بصلة، ولكن لمجرد منح الموثوقية لها من الاستسلام لواقع الحال وإضفاء
الشرعية على ما لا شرعية له.
من يفهم الإسلام ورؤيته سيعلم أن أي حديث يوصي بالحكم
لصحابي هو حديث موضوع، وأن أي فكرة تنتقص من كرامة الإنسان أو يسامح الحاكم بها
كميزة عن غيره هو محض حديث موضوع ولا أصل له، فالحكم في الإسلام محض صيغة جماعية
تنظيمية توحد الرأي، وما تتفق عليه النخبة هو ملزم كي لا تحدث الفتن، وليس بسبب
السلطة أو تعظيما للحاكم أو العالم.
وكل أمر هو شورى في حياة المسلمين لمن يفهم الصواب،
فالقرار في الأسرة شورى وفي العائلة شورى وفي القبيلة شورى وفي المدينة شورى وفي
الدولة شورى. والشورى ليست رأي الأكثرية فقط، وإنما من السيرة تعلمنا أنها رأي
أصحاب الأمر بما يتعلق بهم، كما في بدر والرسول يطلب المشورة ويريد الأنصار، وكما
في موضع القتال حيث ألغي رأي الرسول نفسه كحاكم وقائد أمام الخبرة، عندما اتبع رأي
الحباب بن المنذر، وإنها رأي الأكثرية، عندما أراد الصحابة الخروج إلى أحد فاتبع
الرسول رأيهم، لكنه اتخذ الرأي غير المنظور للجميع عندما أقر صلح الحديبية، لأن
غايته استجلاب السلام وتجنب الحروب، فالمشركون هم أعداء إن حاربوا وهم مشاريع دعوة
في السلم فحوّلهم إلى مشروع دعوة.
أساس الرؤية:
1- أن الآدمي هو بشر له منظومة عقلية ذات كفاءة عالية
وفاعلية مباشرة.
2- هذا الآدمي مكرم وتكريمه من الله مثبت بأمر السجود له.
3- أن له كامل الأهلية والتفكير رغم أن الله قال له: لا تقرب
الشجرة، لكن عندما اقترب منها اعتبرها زلة لأنه أول قرار يتخذه، وعندما فكر ندم
وهذه أولى بوادر حركة المنظومة العقلية.
4- القرآن عندما يقول "إن الله يأمر.." يتبعها بـــ"يعظكم.."،
فالأمر هنا توجيه سلوكي وليس فرضا على المنظومة العقلية، وإنما دعوة للتفكير
والاستنباط بما هو في صالح الأمم ووضعها لقوانين تدير البشرية.
5- أن الله عادل ولا ينقص عدله بتقييد من هو بامتحان، فالإنسان
كامل الأهلية.
6- لم يوص الرسول لأبي بكر أو عليّ رضي الله عنهما لأنه إلغاء للأهلية،
فلا يصح مع العدل أن يحكم رأي الأمة بنسق لا خيار لها فيه؛ والأهلية هي أساس العدل
في محاسبة الإنسان على قراراته لاختياره، ونلاحظ مدى تمزق الأمة في الاختلاف على أمر
لم يك مشكلة متعلقة بالدين أبدا، بل لم يشكل أي مشكلة والمنقول هو تبرير لما هو
شائع.
7- من المحسوس أن العلمانيين والإسلاميين والليبراليين واللادينيين،
بل أتباع المذاهب وهم قد ورثوها وتكونت أفكارهم بانطباعات خارج منظومة العقل
والرؤية، يتهمون بعضهم البعض بالتعصب والطائفية، وتنتشر بينهم الكراهية لتعطيل
المنظومة العقلية وتحكيم العواطف مع الجهل حتى بما ينسبون إليه أنفسهم أو ما
يزعمون. وهذا ديدن كل رافض للآخر، فالكيان الصهيوني لا يرى ما يقتل ويدمر ولا
يعتبره جريمة، بينما يعتبر أتفه الأمور ضده جريمة ضد الإنسانية، والأمر واضح قد
ينسب للصلافة لكنه لا يشعر (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
المشكلة الأساسية هي الفهم، والفهم لا يأتي بأن تترك
منظومتك العقلية مستعمرة من الأنا الإبليسية أو أهوائك أو غرائزك كالتملك والسيادة
وعواطفك.
حتى الكفر لم يفهموا معناه، فأصبح الكل يمتلك الحقيقة
والكل يظن أنه مؤمن ومخالفه كافر. هؤلاء الناس نسوا أنفسهم لنسيانهم الله وغوصهم
في التفاهة "وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ
فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ" (الحشر: 19).
إن
طاعة الله بأن تحترم الرؤية لما خلق، والآدمية تعني المنظومة العقلية، فإعمال
التفكير هو عبادة وتطبيق للغاية من الخلق، أما التقليد والتدين الغريزي وإيقاف
المنظومة العقلية فهي مسألة أظنها تحتاج إلى تفعيل المنظومة وهي عند الجميع، هذا
لا شك فيه!