مقابلات

الأب عيسى مصلح لـ"عربي21": تجميد حساباتنا سلاح الاحتلال لتجويع أبنائنا في القدس (فيديو)

الأب عيسى مصلح أكد أن إسرائيل تحاول شل بطريركية الروم الأرثوذكس وإجبار الشعب المسيحي على الهجرة- عربي21
الأب عيسى مصلح أكد أن إسرائيل تحاول شل بطريركية الروم الأرثوذكس وإجبار الشعب المسيحي على الهجرة- عربي21
كشف الناطق الرسمي باسم بطريركية الروم الأرثوذكس، الأب عيسى مصلح، عن تفاصيل تحركات الكنيسة المكثفة لمواجهة قرار الاحتلال الإسرائيلي بتجميد حساباتها البنكية، مؤكدا أن هذه الخطوة تُمثل تهديدا مباشرا للوجود المسيحي الفلسطيني في القدس.

وقال، في مقابلة مصوّرة مع "عربي"، إن "البطريركية لم تكتفِ بالتصريحات، بل بادرت بالتواصل مع القيادات الرسمية الأردنية والفلسطينية ومع الكنائس المحلية والدولية، لتنسيق جهود الضغط على إسرائيل وفضح سياساتها الجائرة أمام العالم"، مُشدّدا على أن "صمود الكنيسة ينبع من مسؤوليتها الروحية والإنسانية تجاه أبنائها ومجتمعها، وأنها لن تسمح مطلقا بتجاوز حقوقها أو حرمان المؤمنين من خدماتها التعليمية والاجتماعية والصحية".


وأكد الأب مصلح أن "حكومة الاحتلال الإسرائيلي تسعى بوضوح إلى شل قدرة البطريركية على أداء مهامها الروحية والإنسانية"، لافتا إلى أن "الهدف من السياسات الإسرائيلية ليس مجرد ضغط مالي، بل محاولة ممنهجة لدفع الشعب المسيحي الفلسطيني إلى الهجرة تدريجيا، خصوصا من القدس الشريف التي تمثل قلب الوجود المسيحي في فلسطين".

واستدرك بالقول: "رغم قسوة الظروف، نؤكد أننا سنبقى هنا، ثابتين وصامدين وصابرين. قوتنا تنبع من إيماننا بالله، ومن تضامن الأحرار حول العالم معنا، وأقول لهم: لن نرحل، لن نرحل. سوف نبقى حتى التحرير والاستقلال، وحتى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وليعلم القاصي والداني أننا لن نركع إلا لله".

والجمعة، قالت اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين، في بيان، إن "سلطات الاحتلال الإسرائيلي أقدمت الخميس، على تجميد حسابات البطريركية، وفرض ضرائب باهظة على ممتلكاتها، في خطوة تهدد قدرتها على تقديم خدماتها الروحية والإنسانية والمجتمعية، وتشكل خرقا فاضحا للوضع القائم التاريخي، وانتهاكا صارخا للقانون الدولي والاتفاقيات المعمول بها".

وخلال السنوات الأخيرة صعدت السلطات الإسرائيلية من إجراءاتها بمطالبة الكنائس التاريخية في القدس بدفع ضرائب.

كما تؤكد الكنائس أن السلطات الإسرائيلية تسهّل استيلاء جماعات استيطانية إسرائيلية على ممتلكات كنسية في المدينة كما يحدث في منطقة باب الخليل بالبلدة القديمة في القدس.

وتاليا نص المقابلة المصوّرة مع "عربي21":

ما الأسباب التي دفعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى تجميد الحسابات البنكية للبطريركية الأرثوذكسية في القدس؟


كما تعلمون جيدا، هذه ليست المرة الأولى التي تقدم فيها حكومة الاحتلال على مثل هذا الفعل؛ فمنذ سبع سنوات مضت، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارا بحجز أموال الكنائس جميعها، وذهبت أبعد من ذلك حين أصدرت قرارا بإغلاق كنيسة القيامة، في خطوة كانت صادمة ومؤلمة في آن واحد.

واليوم، ومع الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تتسم بالتطرف والتعصب، أعيد إحياء ذلك القرار الجائر على أرض الواقع، لكن بحدة أشد، وبغرض أوضح يتمثل في إضعاف الكنائس في فلسطين بشكل عام، واستهداف بطريركية الروم الأرثوذكسية بشكل خاص. الهدف هو شل قدرة الكنيسة على أداء رسالتها الروحية والإنسانية والمجتمعية، ومنعها من القيام بواجباتها تجاه أبنائها.

ونحن علينا أعباء جسيمة والتزامات واسعة لا يمكن التراجع عنها: دفع رواتب المعلمين في المدارس، ورعاية المؤسسات الإنسانية والاجتماعية، وتغطية نفقات المستشفيات والمشافي، وصرف أجور رجال الدين والرهبان، إلى جانب مصاريف تشغيلية وإدارية أخرى لا حصر لها. الاحتلال يدرك تماما حجم هذه المسؤوليات، ولذلك يسعى إلى استخدام المال كسلاح للضغط على الكنائس ودفعها إلى العجز، حتى يساهم في تهجير الشعب المسيحي الفلسطيني من أرضه، ولا سيما من القدس الشريف التي تمثل قلب الوجود المسيحي في فلسطين والعالم.

ما هو الأثر المباشر لتجميد الحسابات البنكية على الخدمات الروحية والإنسانية والمجتمعية التي تقدمها الكنيسة؟

الهدف الأساسي من هذا الإجراء هو تعطيلنا عن القيام بواجباتنا تجاه أبنائنا ومجتمعنا، الأمر الذي يقود بالضرورة إلى تسريع وتيرة الهجرة المسيحية؛ فكلما عجزت الكنيسة عن دفع الرواتب وتغطية نفقات المدارس والمستشفيات والمساعدات الإنسانية، زادت معاناة الناس بشكل كبير، واضطر الكثيرون للبحث عن مستقبل آخر خارج الوطن، وهكذا يخلو المشهد الفلسطيني رويدا رويدا من المسيحيين، وهو ما تسعى إليه حكومة الاحتلال التي تعمل بشكل منهجي على تقليص وجودنا في القدس.

للأسف الشديد، بات عدد المسيحيين الفلسطينيين لا يتجاوز سبعة أعشار في المائة، أي أقل من 1% من مجموع السكان، وهذا الرقم الصادم يعكس بكل أسف نجاح الاحتلال في مخططاته على مدى سنوات طويلة. لكننا في المقابل لن نقف مكتوفي الأيدي؛ فقد بدأنا بالتحرك على أكثر من صعيد، من خلال التواصل المباشر مع جلالة الملك عبد الله الثاني ملك المملكة الأردنية الهاشمية، الوصي الأمين على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، ومع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكذلك مع رئيس اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس في فلسطين الدكتور رمزي خوري، من أجل رفع صوتنا بقوة على المنابر الدولية، وحشد الدعم لوقف هذه السياسة الجائرة التي تمارسها حكومة إسرائيل المتطرفة.

هل ستتخذون خطوات أخرى إلى جانب التواصل مع ملك الأردن والرئيس الفلسطيني؟

نعم، نحن بصدد تواصل مكثف ومباشر مع جميع الكنائس في الداخل والخارج، ومع القيادتين الأردنية والفلسطينية، من أجل بلورة إجراءات أعتقد أنها ستكون حاسمة ومصيرية في هذه المرحلة الدقيقة؛ فإذا استمرت سياسة تجميد أموالنا بهذه الطريقة الجائرة، فلن يكون بمقدورنا تحريك ساكن، وسنجد أنفسنا عاجزين عن تلبية أبسط احتياجات شعبنا المسيحي في فلسطين. وهذا في جوهره يُمثل محاولة لتجويع الشعب الفلسطيني المسيحي ودفعه إلى الهجرة، وهو ما نرفضه رفضا قاطعا وجملة وتفصيلا.

لذلك، فإننا نوجه نداء عاجلا إلى مجلس الأمن الدولي، وإلى الأمم المتحدة، وإلى جميع الأحرار في هذا العالم، كي يضغطوا على إسرائيل لوقف هذه الإجراءات الظالمة. نحن دعاة سلام ومحبة وتعايش وتعاون، ولسنا أصحاب أسلحة أو دبابات أو مدافع لمواجهة هذه الحكومة المتطرفة؛ فلماذا إذن هذه السياسة المؤلمة؟، ما يحدث اليوم في غزة من حصار وتجويع وقتل وخراب، يتكامل مع ما يحدث ضد المسيحيين في القدس والضفة الغربية، لتصبح النتيجة النهائية واحدة: تجويع الشعب الفلسطيني بأسره، مسلما كان أو مسيحيا، ودفعه شيئا فشيئا نحو الهجرة القسرية إلى خارج وطنه وأرضه.

ما طبيعة هذه الإجراءات الحاسمة التي أشرتم إليها؟

كما تعلمون، نحن دعاة سلام لا نحمل إلا رسالة المحبة والعدالة. نتضرع إلى العلي القدير أن ينير عقول وقلوب البطاركة ورؤساء الكنائس، بالتنسيق الوثيق مع القيادتين الأردنية والفلسطينية، لاتخاذ القرارات المناسبة التي تُظهر للعالم أجمع حقنا وعدالة قضيتنا. فهذه القرارات الإسرائيلية ليست سوى اعتداء سافر على القانون الدولي، وعلى المواثيق الدولية التي تمتد جذورها إلى عهد العثمانيين والانتداب البريطاني، والتي كفلت حرية الكنائس وحمايتها.

وأنا أعتقد أن لغة القلم، والكلمة الصادقة، والاستنارة، ستكون الوسيلة الأساسية التي سيلجأ إليها البطاركة ورؤساء الكنائس، بالتشاور مع القيادتين الفلسطينية والأردنية، لإيصال صوتنا إلى القاصي والداني. نحن نريد أن نوصل إلى العالم أجمع أوجاع أبنائنا، ومعاناة كنائسنا ومساجدنا، ومأساة هجرتنا القسرية. ونؤكد من هنا، من قلب بيت لحم ومن القدس الشريف، أننا لم ولن نركع إلا لله سبحانه وتعالى، ولن نتنازل عن الإرث العظيم الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا. سنبقى متجذرين في هذا التراب المقدس مهما ألمّت بنا الصعوبات والهموم والاضطرابات.

هل تتوقعون أن تتراجع إسرائيل عن هذه الخطوات؟

نعم، نحن نؤمن أن الاحتلال، شاء أم أبى، يجب أن يتراجع عن هذه القرارات. فقضيتنا عادلة وواضحة، ومواقفنا نقية لا لبس فيها، فهي دينية وإنسانية واجتماعية ووطنية في آن واحد. نحن لم نسيء لأحد، بل كنا على الدوام دعاة سلام وعيش مشترك. ولكن، وللأسف الشديد، يقف العالم حتى الآن صامتا ومتفرجا -إن لم يكن عاجزا- أمام ما يحدث في غزة من جرائم وحصار، وأمام ما يتعرض له المسيحيون في القدس.

ورغم ذلك، نحن متمسكون بالأمل والتفاؤل في قلوبنا وكلماتنا ومشاعرنا. ونحن على يقين بأن القيادتين الأردنية والفلسطينية ستبذلان أقصى ما بوسعهما لإيصال صوت الكنائس ومعاناتها إلى العالم أجمع، وعلى الاحتلال الإسرائيلي أن يتراجع فورا عن هذا القرار الجائر، وإلا فإننا سنضطر إلى إغلاق كنيسة القيامة مرة أخرى، وربما إغلاق كنائسنا ومساجدنا وأديرتنا. فنحن لسنا وحدنا في هذه المعركة، بل لدينا دول صديقة تدعمنا، ولدينا علاقات قوية على المستوى الدولي. والأهم أننا نحن، المسلمين والمسيحيين، نقف اليوم على قلب رجل واحد، نواجه هذا الاحتلال بصلابة ووحدة، وأملنا كبير في جلالة الملك عبد الله الثاني، الوصي الأمين على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، الذي يشكل سندا قويا وداعما أساسيا لقضيتنا.

لكن على أرض الواقع، ما الضرر الذي قد يقع على إسرائيل إذا ما أقدمتم فعلا على إغلاق الكنائس في فلسطين؟

عندما أغلقنا كنيسة القيامة قبل نحو سبع سنوات، لم يرق ذلك للحكومة الإسرائيلية. ومن الناحية الإعلامية والسياسية، تضررت صورة ما يسمى "الأمن والأمان" داخل إسرائيل، الأمر الذي دفعها إلى الاستجابة لمطالب الكنائس حينها؛ فقد لعبنا دورا كبيرا على مستوى الرأي العام، وتدفقت الضغوط الدولية والإقليمية من كل الجهات، حتى وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها مُضطرة إلى الاعتراف بأن هذه بيوت الله، ولا يجوز بحال من الأحوال إغلاقها. وهنا يطرح السؤال نفسه: من أنت أيها الإنسان حتى تجرؤ على إغلاق بيوت الله في وجه المؤمنين الذين يعبدون رب العالمين؟

نحن لا نسيء إلى أحد، كل ما نطلبه هو الحق والعدل والإنصاف. نحن نريد حقنا، واستقرارنا، وإقامة دولتنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، لنعيش بسلام مع شعوب الشرق الأوسط كافة.. فلماذا هذا التعدي السافر على الكنائس؟، ماذا ارتكبنا ليستهدفونا بهذه الطريقة القاسية؟، هذه قرارات جائرة للغاية، لا تستند إلى قانون أو منطق، وتخلو تماما من الضمير الإنساني.

نحن نرفع صلواتنا وسنظل نرفعها، لأن السيد المسيح علّمنا وقال: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون"، ونأمل أن ينير الله عقول زعماء العالم وقلوبهم، ليمارسوا الضغط المطلوب على إسرائيل من أجل التراجع عن هذا القرار الظالم.

هل تواصلت معكم إسرائيل قبل أن تقدم على هذه الخطوة؟ وهل أنتم على تواصل معها أم لا؟

نحن نعيش تحت الاحتلال، وبالتالي هناك تعامل إجباري مع سلطاته، وغالبا ما يتم ذلك عبر وزارة الخدمات الدينية الإسرائيلية لترتيب بعض الأمور المتعلقة بالكنائس، لكن الحقيقة المؤلمة أن الاحتلال يفرض دائما قيودا تحت ذريعة "الأمن والأمان"؛ ففي المناسبات الدينية، يُسمح لنا بإدخال عدد محدود جدا من المؤمنين إلى الكنائس، بحجة "الحفاظ على سلامة الكنائس"، كما يدّعون.

على سبيل المثال، ونحن الآن على أبواب عيد التجلي غدا الثلاثاء، فإنهم لا يريدون السماح للشعب المسيحي بممارسة عباداته إلا بأعداد قليلة للغاية، في حين أن عشرات الألوف كانوا يحضرون هذه المناسبات في السنوات السابقة. إنهم يضيّقون على المسيحي حتى لا يقوم بواجباته الدينية، وهذا عين ما يحدث مع إخوتنا المسلمين في المسجد الأقصى المبارك.

أما فيما يتعلق بالأموال، فعندما يتم حجز أموالنا أو يتم تجميدها لا يتوهمون أننا سنقف عاجزين أو أننا لن نستطيع تحريك ساكن. هذا وهم في خيالهم، لا سيما أن الظروف الاقتصادية مأساوية جدا، والسياسية معقدة، وأوضاع المنطقة بأسرها مضطربة. والمساعدات الأوروبية تراجعت بشكل ملحوظ، والحرب المستمرة على غزة أرهقت النفوس وأثقلت كاهل الناس. المعلّم - ونحن على أبواب المدارس - الذي ينتظر راتبه ليُعيل أسرته لا يجد ما يسد به رمق أطفاله. هذه سياسة واضحة: سياسة تجويع وتركيع للشعب الفلسطيني، لكننا نقول للعالم كله بصوت عالٍ جدا: لن نركع إلا لله سبحانه وتعالى. نحن شعب يريد الحرية التي منحها الله للإنسان منذ الخليقة، ولن ننحني أمام أحد غيره.

كيف تقيّمون موقف مجلس الكنائس العالمي من هذه الإجراءات الإسرائيلية؟

اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس في فلسطين برئاسة الدكتور رمزي خوري، قامت بالفعل بتوجيه رسائل عاجلة إلى جميع الكنائس في العالم، من أجل توضيح حقيقة ما يجري على أرض الواقع، وخاصة في القدس الشريف والأراضي المقدسة. وأنا مؤمن بأن الكنائس، بما لديها من مسؤولية روحية وأخلاقية، ستتحرك بكل قوة على الأصعدة كافة: الدبلوماسية، والاجتماعية، والإعلامية، والدينية. لدينا علاقات متينة وراسخة؛ فهناك 13 كنيسة في القدس والأراضي المقدسة، ولكل منها روابط وعلاقات مباشرة مع دول أوروبية وأمريكية، وهذا يمنحنا قوة إضافية لإيصال صوتنا إلى المحافل الدولية.

من هنا أعتقد أن الأمور ستتحرك في الاتجاه الصحيح، مهما بدت الظروف صعبة وقاسية، وأننا سنصل بإذن الله إلى برّ الأمان. ثقتنا راسخة بأن الظلم لا يدوم، وبأن هذا القرار الجائر سيُكشف عواره أمام العالم، وأن قضية الكنيسة في القدس ستظل شاهدة على الحق وعدالة قضيتنا الوطنية والإنسانية.

هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها المقدسات المسيحية في فلسطين لانتهاكات إسرائيلية ومع ذلك ظل العالم المسيحي في حالة صمت أو تجاهل تجاه ما حدث سابقا.. ما المختلف هذه المرة تحديدا؟

المختلف هذه المرة أن الأمر لم يعد يقتصر على الاعتداء على الحجارة أو المقدسات أو الأراضي، بل أصبح يستهدف لقمة عيش أبنائنا وتجويعهم بشكل مباشر، وهذا ما لا يمكن السكوت عنه بأي حال من الأحوال. لذلك، أقولها بوضوح: سأثور، وسأصرخ، وسأرفع صوتي عاليا حتى يسمعنا العالم أجمع.

قبل أيام قليلة فقط، اقتحم أحد المستوطنين مقر إحدى الكنائس، ورفع العلم الإسرائيلي فوق الكنيسة والأرض المحيطة بها. المستوطن لا يفرّق بين مسجد وكنيسة، ولا بين غني وفقير؛ إنه أداة بيد الاحتلال، يحصل على الدعم والتغطية ليقوم بأعمال تخريبية ممنهجة على الأرض، ومنها حرق مركبات، والاعتداء على المزارعين، والتضييق على حياة الناس اليومية، وكلها ممارسات تهدف إلى خلق واقع من الترهيب واليأس.

وأنا أكرر ما يقوله المثل الشعبي: "يا فرعون، إيش فرعنك؟، قال: لم أجد أحد يردني". هذا المثل يلخص حال إسرائيل التي تفعل ما تشاء في ظل صمت عالمي مريب. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا هذا الصمت؟، ماذا ارتكبنا من جرم كي تُجمّد حساباتنا البنكية التي تعود جذورها إلى قرون طويلة؟، لماذا يُثار هذا الملف الآن تحديدا؟، الجواب واضح وصريح: الهدف هو تهجيرنا وتجويعنا لإفراغ الأرض من مسيحييها ومسلميها معا.

لكننا، رغم هذا الظلم، متمسكون بإيماننا بأن الله، الجالس على كرسي العدل، سيمنحنا الإنصاف والحرية والاستقرار. نحن رجال دين، لا نحمل البنادق ولا المدافع، بل نملك مؤسسات إنسانية واجتماعية تُعنى بخدمة الفقراء والمحتاجين. هم يريدون إذلالنا، لكننا لن نركع ولن ننكسر. لدينا أدواتنا ووسائلنا واتصالاتنا، ونعتبر الإعلام شريكا أساسيا في معركتنا؛ فهو المنبر الذي من خلاله نرفع صوتنا ونوصل معاناتنا إلى زعماء العالم وأحرار الإنسانية. وهنا أؤكد أن اهتمامكم الإعلامي بما يحدث ليس مجرد مهنية صحفية، بل هو موقف أخلاقي وإنساني في مواجهة الظلم والاحتلال.

هل تعتقدون أن هناك خطرا حقيقيا يهدد مستقبل الوجود المسيحي في القدس وفلسطين في ظل استمرار هذه السياسات الإسرائيلية؟

بكل تأكيد، الخطر حقيقي وجدي للغاية. نحن نرى بأعيننا كيف تُغلق البيوت المسيحية الواحد تلو الآخر، وكيف يتآكل الوجود المسيحي يوما بعد يوم. وأستحضر هنا قول السيد المسيح: "نفسي حزينة حتى الموت"، وهذه الكلمات تجسد تماما حال شعبنا اليوم.

لقد أصبحنا أقل من 1% من السكان، ولولا الكنائس والأديرة التي ما زالت تحتضن المؤمنين وتساندهم ماديا وروحيا، لتحوّلت هذه الكنائس إلى مجرد متاحف خاوية بلا حياة. كثير من العائلات المسيحية ما إن تُتاح لها فرصة للهجرة حتى تُغلق بيتها وتغادر بحثا عن الأمان والحرية والاستقرار لأطفالها، وهذا النزيف المستمر يضع الوجود المسيحي الفلسطيني بأسره على حافة الخطر، تماما كما هو حال الشعب الفلسطيني عامةً الذي يواجه محاولات الاقتلاع والتهجير.

ومع ذلك، ورغم قسوة الظروف، نؤكد أننا سنبقى هنا، ثابتين وصامدين وصابرين. قوتنا تنبع من إيماننا بالله، ومن تضامن الأحرار حول العالم معنا، وكلما وجدنا مَن ينقل صوتنا بأمانة ويقف إلى جانب قضيتنا العادلة، نشعر باندفاع أكبر وثقة أعظم، وهذا يمنحنا العزيمة لنستمر ونبقى على هذه الأرض المقدسة حتى يأتي الفرج من عند الله عز وجل. وأختم بالقول لهم: لن نرحل، لن نرحل. سوف نبقى حتى التحرير والاستقلال، وحتى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وليعلم القاصي والداني أننا هنا على أرضننا، نحن أصحاب الحق وأصحاب الأرض، ولن نركع إلا لله.
التعليقات (0)

خبر عاجل