آسف زميلي العزيز، لم نلتق من قبل، لكني تابعت تغطيتك الحية والصادقة
والموضوعية لحرب الإبادة والتجويع القاتل عبر قناة
الجزيرة. لم يتركوك وزملاءك
تستمر في كشف المجازر التي ارتكبوها في حق المدنيين العزّل، لم يتحملوا طويلا
شجاعتكم في اختراق خطوط النار لتوثيق جرائمهم التي اهتز لها عرش الرحمن، فاتخذوا
قرارهم في تلك الليلة، وقرروا توجيه أسلحتهم الفتاكة نحو خيمتكم، وحولوكم إلى
أشلاء تشهد على حقدهم وكراهيتهم الشديدة للصحافة الحرة والصحافيين الأحرار.
يشهد الجميع، باستثناء الأشرار والأغبياء، بأنك كنت أمينا في أدائك المهني،
لم تكذب، ولم تزوّر، ولم تدلّس، ولم تضخّم المشاهد والوقائع. كانت الكاميرا تصور
وتنقل الوقائع كما هي، وكنت تعلق على التراجيديا الدائرة حولك وأمامك وخلفك وتحتك
وفوقك بكل أمانة، كما كنت بشجاعتك النادرة تترجم ذلك كله في كلمات صادقة وصريحة
ومعبرة. كنا نراك في قلب المأساة، الجثث من حولك، والأطفال الجياع يهيمون في الشوارع
التي انهارت مبانيها كأنه يوم الحشر، ولم يبق من ذلك سوى صوتك المدوي ترجمانا يقض
مضاجع المشاهدين بمختلف أصنافهم ومواقعهم.
عبثا حاولوا تشويه أدائك، عبر الكذب والافتراء والادعاء بكونك "إرهابيا" في ثوب صحفي، فخانتهم وسائلهم القذرة، وأثبتوا بأن مشكلتهم الأساسية ليست معك كشخص بقدر ما هي مع ما قمتم بتوثيقه من جرائم ضد الإنسانية
عبثا حاولوا تشويه أدائك، عبر الكذب والافتراء والادعاء بكونك "إرهابيا"
في ثوب صحفي، فخانتهم وسائلهم القذرة، وأثبتوا بأن مشكلتهم الأساسية ليست معك كشخص
بقدر ما هي مع ما قمتم بتوثيقه من جرائم ضد الإنسانية. هم جُبلوا على كراهية
الحقيقة، ولا يريدون النظر في المرآة ليروا الشر الذي يملأ نفوسهم العفنة، لهذا
عملوا على تدمير خيمة الصحافيين ظنا منهم بأنهم بفعلتهم تلك سيطمسون الحقيقة ويزورن
التاريخ، كما فعلوا من قبل، فخيّب الله مسعاهم، وحصل عكس ذلك تماما، حيث كشفوا
أنفسهم بأنفسهم، فأنصفتك المنظمات الصحفية والحقوقية حين رُفع الغطاء عن الأجهزة
المتورطة في الفبركة والتشويه. حتى البعض الذين صدقوا تلك الترهات التي روجها
العدو في حقك تراجعوا عن أقوالهم، واعترفوا بكونك صحفيا أمينا وملتزما بمهنتك، ووفيّا
لشعبك الذي يعيش أشرس الحروب على الإطلاق.
أنت الآن في دار الحق ونحن لا نزال في دار الباطل بكل ما فيها من طغيان
وظلم، ولكن ما نريد إبلاغك به أن القضية التي دافعت عنها لم تنته، وأن مسرح
الجريمة لا يزال مفتوحا وقائما بكل تفاصيله وشخوصه. الحرب لم تنته، وشعبك لم
يستسلم، وإرادة الله لم تفصح بعد عن كلمتها الأخيرة وحكمها النهائي. فزملاؤك يا
أنس الشريف، وأنت شريف بالفعل، تسلموا المشعل، ويواصلون التغطية دون خوف أو كلل.
لقد تعلموا منك وممن سبقوك في هذا الطريق، الشجاعة والمهنية ونقل الحقيقة كما هي،
فلا تحزن ونم نومتك الأخيرة بكل اطمئنان. لقد أديت الأمانة، وخلفت وراءك من حمل
المشغل ورابط مع المسحوقين والمسحوقات،
بعض الصحافيين الغربيين يكتفون بالتقاط الصور من الطائرات بموافقة إسرائيلية، في حين تقوم الجزيرة بجمع الشهادات من الميدان، وبعد لحظات من ارتكاب الجريمة، وعندما يسقط شهيد من صحافييها، يتولى آخرون إتمام الرسالة
ليكون لسانهم في هذه المرحلة التي فقد
الكثيرون ألسنتهم ومعها كرامتهم وضمائرهم. الشعوب بدأت تستيقظ من سباتها، وتدرك
تدريجيا مَن الإرهابي ومَن الوطني، ومَن الوحش الكاسر ومَن الضحية.
في هذه المناسبة لا بد من إنصاف قناة الجزيرة، التي لا يزال البعض يهاجمها
صباحا مساء ويوم الأحد، ويعتبرها وسيلة للتزوير والدعاية، فلولا هذه القناة وصحفييها
لبقي جزء كبير من الحقيقة غائبا ومطموسا. فكيف تكون هذه القناة جزءا من "مؤامرات
العدو" كما يعتقد البعض، في حين أنها تلعب حاليا دورا حاسما في تعرية مخططاته
وتوثيقها وترويجها على نطاق واسع؟ فبعض الصحافيين الغربيين يكتفون بالتقاط الصور
من الطائرات بموافقة إسرائيلية، في حين تقوم الجزيرة بجمع الشهادات من الميدان،
وبعد لحظات من ارتكاب الجريمة، وعندما يسقط شهيد من صحافييها، يتولى آخرون إتمام
الرسالة. وبدل أن يتم تقدير هذه المؤسسة، ويتم الاعتراف بدورها خلال هذه المرحلة
الهامة من تاريخنا المعاصر في إعادة صياغة الرأي العام العالمي تجاه أقدس القضايا
وأعدلها، يحصل خلاف ذلك ويقع تعميق التشكيك في النوايا والمهام.
رحم الله أنس وزملاءه، أنتم السابقون والبقية لاحقون ممن ساروا على دربكم.
ذاك هو طريق الحرية وضريبة النضال الإعلامي في لحظات الانكسار والخذلان.