تقارير

وفاة المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس.. فيلسوف هادئ أثّر في جيله

رغم عمق مساهماته في نقد التغريب، وتحليل الفلسفات الغربية، وتقريب مقاصد الشريعة إلى الأجيال الجديدة، لم يحظَ جعفر شيخ إدريس بحضوره اللائق في الإعلام أو في المناهج التعليمية..
رغم عمق مساهماته في نقد التغريب، وتحليل الفلسفات الغربية، وتقريب مقاصد الشريعة إلى الأجيال الجديدة، لم يحظَ جعفر شيخ إدريس بحضوره اللائق في الإعلام أو في المناهج التعليمية..
توفي المفكر والداعية السوداني البارز الدكتور جعفر شيخ إدريس، أمس الجمعة 18 تموز/ يوليو 2025، في العاصمة السعودية الرياض، عن عمر ناهز 95 عاماً، قضى معظمه في ميادين الفكر والدعوة والتعليم، متمسكاً بالبساطة في الهيئة والعمق في الطرح، دون أن ينال التقدير الذي يليق بقامته في الإعلام العربي والثقافة المعاصرة.

ويعدّ الراحل من أبرز وجوه المدرسة الفكرية الإسلامية التي جمعت بين الأصالة الشرعية والمعرفة العميقة بالفكر الغربي والفلسفة، حيث أسهم في تأسيس خطاب دعوي عقلاني، بعيدا عن الصخب، من خلال تدريسه، وكتاباته، ومحاضراته، ومناظراته، التي جابت عدداً كبيراً من العواصم والجامعات حول العالم.

غياب مؤلم.. وصمت رسمي

رغم تأثيره الكبير في أجيال من طلبة العلم والدعاة والمفكرين، غاب عن وفاة جعفر شيخ إدريس أي تأبين رسمي أو اهتمام إعلامي واسع، باستثناء بيانات محدودة من بعض الهيئات الإسلامية والمقربين منه، الأمر الذي أعاد طرح أسئلة قديمة حول تغييب رموز التيار الإسلامي الوسطي عن المشهد الثقافي العربي، سواء من قبل المؤسسات أو وسائل الإعلام.

الكاتب الصحفي المصري جمال سلطان، رئيس تحرير صحيفة "المصريون"، استعاد أولى لحظاته مع الشيخ الراحل في منتصف التسعينيات ببريطانيا، حين التقاه في ندوة علمية، فوجده مسنًا يحمل حاسوبا محمولا ويكتب عليه ورقته البحثية بينما كان هو، الأصغر سنًا، يكتب بالقلم والدفتر.

يقول سلطان: "كانت لحظة عجيبة، فمظهره المتواضع ووجهه الطفولي وابتسامته اللطيفة لا توحي بأنك أمام فيلسوف، لكنه في الجلسة والمحاضرة يأسرك بحجته وعقله ومنطقه".

ويضيف: "كان مشروعًا فكريًا متكاملاً، جمع بين علوم الشريعة والفلسفة الحديثة، وطرح الإسلام بصفته مشروعًا عقلانيًا حضاريًا، وليس مجرد رد فعل على التغريب".



كلمات وداع من علي الصلابي

نعى الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور علي محمد الصلابي، الفقيد بكلمات مؤثرة، وصفه فيها بأنه “أمة وحده” و”موسوعة فكرية”، مؤكداً أن الأمة فقدت برحيله قامة علمية قلّ أن يجود الزمان بمثلها.

وكتب الصلابي: "عرفته شمسًا تُشعّ بنور العلم، وسراجًا وهاجًا في ميدان الفكر والدعوة والتجديد. كان يخاطب الفطرة والعقل معًا، دون تكلّف ولا استعراض. وإذا كتب أخرس صدى الفارغين".

واستعرض الصلابي أبرز مؤلفات الفقيد التي وصفها بأنها “لبنات فكرية في مشروع النهضة الإسلامية الواعية”، ومن بينها: الفيزياء ووجود الخالق: الذي أقام فيه برهانًا علميًا على وجود الله، الأسس الفلسفية للمذهب المادي: الذي نقض فيه الفلسفة المادية الغربية، نظرات في منهج العمل الإسلامي: مراجعة نقدية لمسار الصحوة الإسلامية، الإسلام لعصرنا: دعوة إلى تجديد فهم الإسلام بلغة العصر دون تفريط في الأصول.



من بورتسودان إلى العالمية

وُلد جعفر شيخ إدريس عام 1931 في مدينة بورتسودان شرقي السودان، من أسرة تنحدر من شمال البلاد. تلقى تعليمه الأولي في السودان، قبل أن ينتقل للدراسة في مصر وبريطانيا، حيث نال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن.

انخرط في التعليم والدعوة باكرًا، وكان له نشاط واسع في الجامعات والمؤتمرات والمراكز الإسلامية، من إفريقيا وآسيا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا. كما كتب باللغتين العربية والإنجليزية، ودرّس في عدد من الجامعات السعودية والخليجية والأمريكية.

كان عضوًا نشطًا في عدد من الهيئات والمجالس العلمية، كما أشرف على عشرات الرسائل الجامعية، وكتب زاوية شهرية بمجلة “البيان” بعنوان “الإسلام لعصرنا”.

تراث لم يُنصف

رغم عمق مساهماته في نقد التغريب، وتحليل الفلسفات الغربية، وتقريب مقاصد الشريعة إلى الأجيال الجديدة، لم يحظَ جعفر شيخ إدريس بحضوره اللائق في الإعلام أو في المناهج التعليمية، وهو ما يرجعه البعض إلى "حالة الجفاء" بين النخب الفكرية الإسلامية والتيارات الثقافية السائدة في العالم العربي، إضافة إلى بُعده الشخصي عن الأضواء.

ومع رحيله، يعيد كثيرون التذكير بالحاجة إلى توثيق تراثه، ونشر كتبه، وتدريس أفكاره التي جمعت بين الحجة والمنهج، وبين وضوح الفكرة وسلاسة البيان.
التعليقات (0)