صعّدت
المقاومة في غزة عملياتها النوعية والمركبة، خلال هذه الأيام التي تشهد التحضير
لهدنة ووقف إطلاق نار يُفترض الإعلان عنه من واشنطن غدا الاثنين (7 تموز/ يوليو)، بحضور
ترامب ونتنياهو، ويتوقع كثيرون أن وقف إطلاق النار سيقود إلى "خطة"، يجرى
الآن إحكامها وضبطها على المقياس
الغربي/ الصهيوني القديم، لإنهاء الحرب الأطول التي
شهدتها "الدولة الصهيونية" منذ تأسيسها، فهذه حرب لم تخضها
إسرائيل من
قبل على مدار كل الحروب التي خاضتها مع جيرانها العرب، سواء كانت جيوشا نظامية أو
حركات مسلحة.
منذ سنة
1953م، تقوم نظرية الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي على وثيقة كتبها ديفيد بن جوريون
بعنوان "جز العشب"، ومن وقتها لم تكتب في إسرائيل وثيقة أمنية وعسكرية
استراتيجية جديدة، فقط بعض التعديلات على الوثيقة الأصلية التي صاغها أول رئيس
وزراء لإسرائيل.
سنقرأ عن تعديل
سنة 1986م (لجنة النائب دان مريدور/78 سنة) وتعديل 2006م (دان مريدور أيضا) ولكن
بإشراك أوسع من خبراء في الأمن القومي، وعسكريين وأكاديميين، إلى أن قام رئيس
الأركان إيزينكوت في 2015م بوضع وثيقة عُرفت بخطة الجيش الاستراتيجية، لا تتعارض
مع وثيقة بن جوريون في الكثير من بنودها، لكنها ستكون بالطبع أحدث وأكثر اتصالا
بالمتغيرات المتسارعة، وأطلق عليها اسم "جدعون"، القائد والقاضي الذي انتصر
على الكنعانيين قبل الميلاد بحوالي 1200 سنة!! كما تقول الرواية التلمودية.
ليست حرب "الدولة الصهيونية" بكل المحددات التقليدية القديمة، هذه حرب "العالم الغربي" بأسره، أمام أفكار ومفاهيم خطيرة، في إدراك الغرب لجوهر الصراع مع الشرق، وهذا هو "قلب الحقيقة" فيما نعيشه الآن
سمعنا هذا
الاسم في آخر جولات إسرائيل "الفاشلة"، لتحقيق أهدافها من الحرب على غزة، "عربات جدعون"، وسيكتب التاريخ عن كل تلك الجولات يوما ما أن أحدا، لم يقم بـ"مسخرة"
نفسه بنفسه، كما فعل "الجيش الذي لا يقهر" بنفسه في غزة، بعد "طوفان
الأقصى".
* * *
وثيقة
"جدعون" تتحدث عن الحرب والسلام، وعلاقات المستوى العسكري مع المستوى
السياسي، ودور الجيش الإسرائيلي في تحقيق الأهداف المدنية والعسكرية لدولة
إسرائيل، وأفضل السبل لمواجهة التهديدات التي ستتعرض لها إسرائيل، كما نشرت مجلة "شئون
فلسطينية" في العددين 262/263.
* * *
وثيقة بن جوريون
(ت: 1973م) الأساسية قامت على مفاهيم ثابته ومركزية، مفادها أن إسرائيل دولة صغيرة،
محاطة بعدد كبير من الأعداء، سيواصلون عداءهم لها في العقود القادمة، وكونها دولة
صغيرة من حيث المساحة والسكان، فإنها لن تستطيع فرض السلام على العرب، أو حسم
المعركة معهم مرة واحدة. وبالتالي، فإن أفضل طريقة للبقاء هي المحافظة على:
أولا: "قدرة
الردع" في مواجهة العرب، بواسطة إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر المادية
والبشرية في صفوفهم، لتثبيط معنوياتهم، كي تطول فترة الهدوء القادمة، والاستعداد
للحرب التي بعدها.
ثانيا: "الإنذار
المبكر" والمحافظة على التفوق المعلوماتي، بهدف معرفة قدرات العدو، دولا
ومنظمات، ونواياه وتوجهاته الاستراتيجية تجاه دولة إسرائيل، خاصة في أوقات
الطوارئ، كي يتم تجنيد الاحتياط بسرعة، من أجل خوض الحرب.
ثالثا:
"حسم المعركة"، فمساحة إسرائيل الصغيرة، وقلة مواردها البشرية، تتطلب
منها خوض معركة قصيرة تحقق فيها الانتصار السريع.
الإضافة
الوحيدة التي أضافتها "وثيقة جدعون" على تلك الثوابت الثلاثة، تتعلق
ببند "الدفاع"، وهو بالأساس موجه للجبهة الداخلية، وتتحدث عن "شبكات"
اعتراض الصواريخ بمختلف أنواعها والتي وأصبحت الآن أشهر من أن تُعرّف، بعد حرب الاثني
عشر يوما مع إيران في منتصف الشهر الماضي (حزيران/ يونيو).
* * *
الحديث عن
دور "طوفان الأقصى" في تحطيم نظرية بن جوريون، لا يحتمل المزيد من أي مزيد،
ليس هذا فقط، بل وطريقة "الوعي والكي" التي تحدثوا عنها طويلا و"ما
لا يأتي بالقوة، يأتي بالمزيد من القوة" أصبحت كلاما يُلحق السخرية الشديدة بقائله.
وهذا في
الحقيقة شيء خطير للغاية في عُرف التاريخ العسكري لأي كيان، يتطلع إلى مستقبل جيد
في محيطه الإقليمي، بل ويتطلع إلى أن يكون له دور ريادي في رسم هذا المستقبل.
* * *
سننتبه هنا
إلى أنه قد تم تفصيل وصياغة وثيقة بن جوريون في الخمسينيات على مقياس "الدولة
القُطرية" التي قامت في المشرق العربي وقتها، بعد "سايكس بيكو"، والتي
تم تفصيلها تفصيلا سنة 1916م على ضوء ما سيأتي لاحقا سنة 1918م، "وعد بلفور"
وعين صاحبة الجلالة التي ستنظر بعطف إلى الشعب اليهودي، ويا ليت الأمر كان عطفا بالفعل.
وذلك ليس
فقط لأن اليهود لم ينعموا بالحرية والأمن والكرامة، إلا في ظل الحضارة الإسلامية
في العصور الوسطى، والولايات المتحدة الأمريكية الآن، كما قال أبا إيبان (ت: 2002م)،
وزير خارجية إسرائيل الأسبق، وليس فقط لأن عقلاء المفكرين والمؤرخين اليهود مثل آفي
شلايم (79سنة) ينظرون لتلك الدولة باعتبارها "حالة استعمارية" لا مبرر
لها، ولا مستقبل لها، وتتحرك خارج التاريخ، وضد الجغرافيا، ولكن وهو الأهم، لأنهم
للأسف سيكررون دورهم التاريخي في القيام بالمهام "الوظيفية" غير
النظيفة، نيابة عن غيرهم، كما قال المستشار الألماني فريدريش ميلتس في حرب إسرائيل
على إيران الشهر الماضي.
* * *
سيذهب أوديب
إلى قدره بقدمه، كما تقول الأسطورة، وستبدأ حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين،
برعاية ودعاية صهيونية/ غربية، مشبعة بالأكاذيب.
وسيذهب
الشاعر اليوناني الكبير كازانتازاكس (ت: 1957م) إلى فلسطين سنة 1926م، موفدا من إحدى
الصحف ليسجل مشاهداته على احتفالات عيد الفصح في فلسطين، وسيقول لنا صاحب رواية "زوربا"
الشهيرة، ولكل العالم المتحضر: "إن الكوارث التي ستقع على العالم أجمع، هي
نتيجة لهذه الحركة (حركة الهجرة)".
قال ذلك في
تقريره الصحفي الذي جُمع في كتاب "رحلة إلى فلسطين"، وهو متاح باللغة العربية،
ترجمة الأستاذين محمد الظاهر ومنية سمارة، عام 1989م في عمان.
وقد قدم
لليهود وقتها "نصيحة" لا تصدر إلا عن شاعر ومفكر "قادر على الكتابة
بما يُرضى قلبه"، كما وصفته زوجته في مقدمة سيرته الذاتية. فقال لهم: "الشتات
هو وطن اليهود، لا محالة، فلا جدوى من الهرب من هذا القدر المحتوم، والبحث عن أمل
وسعادة في فلسطين، ولأنني أحب اليهود، فأتمنى أن يتمكن العرب عاجلا أم آجلا من
طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم".
* * *
مائة سنة
تقريبا على هذه النصيحة، التي صدرت عن أحد أروع العقول في تاريخ الفكر الأوروبي في
العصر الحديث.
لكن أحاديث
الغرف المغلقة، بدهاليزها السرية الخفية في "المخزن الغربي" العتيق، لا
زالت تنص على أن "الشرق الإسلامي" هو عدوه الذي لا يتبدل ولا يتغير، أو
هكذا يجب أن يكون دائما. ولهذا سنرى "جيش الدفاع" المنهك، يستمر في "حرب
طويلة" بلا أفق استراتيجي، وللمرة الأولى في تاريخه سيخالف أحد أهم مكونات
عقيدته القتالية، التي ترعرع عليها: "الحرب الحاسمة".
الأسس الاستراتيجية التي قامت عليها أركان الشرق الأوسط، من الخمسينيات، يتم الآن "خلخلتها" من الجذور، وسيستغرق ذلك بعض الوقت. ومن تقدم ليعلن ذلك للتاريخ، كان قد تحضر لهذا الأمر، بأقصى ما أمكنه من تصور، وقدرة، واستطاعة، وعرق، ودم، ودموع
لماذا..؟؟ لأنها
ليست حرب "الدولة الصهيونية" بكل المحددات التقليدية القديمة، هذه حرب "العالم
الغربي" بأسره، أمام أفكار ومفاهيم خطيرة، في إدراك الغرب لجوهر الصراع مع
الشرق، وهذا هو "قلب الحقيقة" فيما نعيشه الآن..
* * *
الأسس
الاستراتيجية التي قامت عليها أركان
الشرق الأوسط، من الخمسينيات، يتم الآن "خلخلتها"
من الجذور، وسيستغرق ذلك بعض الوقت. ومن تقدم ليعلن ذلك للتاريخ، كان قد تحضر لهذا
الأمر، بأقصى ما أمكنه من تصور، وقدرة، واستطاعة، وعرق، ودم، ودموع.
والعبرة هنا
في الإدراك الغربي، ليس بما حدث، وهو غير عادي، بل بما سيحدث، وهو غير المقبول. و"الإيمان"
سيحسم القصة، في تفسير ما هو غير عادى، وجعل غير المقبول مقبولا!
فلا عجب إذن
أن نرى "الدولة الصهيونية" الآن، وللمرة الأولى، تخالف أحد أهم مكونات
وعيها بوجودها، كما نصت نظرية "جزّ العُشب".
x.com/helhamamy