في إنجاز علمي لافت يفتح آفاقا جديدة أمام فهم نشأة الحياة وتعقيداتها الأولى، طور باحثون نموذجا متقدما في التعلم العميق قادرا على التنبؤ، دقيقة بدقيقة، بكيفية تغير الخلايا الفردية خلال المراحل الأولى من تطور
ذبابة الفاكهة، في خطوة تعد من أكثر المحاولات تقدما لرصد كيفية تشكل الأنسجة والأعضاء منذ اللحظات الجنينية الأولى.
وبحسب دراسة نشرت في دورية "
Nature Methods" العلمية، أظهر النموذج القائم على
الذكاء الاصطناعي قدرة غير مسبوقة على متابعة آلاف الخلايا في آن واحد، والتنبؤ بدقة عالية بكيفية انقسامها، وطيها، وحركتها المستمرة خلال المرحلة المبكرة من التطور الجنيني.
ويرى الباحثون أن هذا التقدم لا يقتصر على الفهم النظري، بل يحمل إمكانات تطبيقية واسعة، من بينها التعرف المبكر على الأنماط الخلوية المرتبطة بالأمراض مثل الربو والسرطان، قبل ظهور أعراضها السريرية.
وتسعى الدراسة إلى الإجابة عن أحد أكثر الأسئلة إلحاحا في علم الأحياء التطوري، وهو: كيف تنجح آلاف الخلايا في تنسيق حركتها وتفاعلاتها المعقدة لتشكيل البنى الحيوية الأساسية للكائن الحي؟. ويؤكد الباحثون أن فك هذا اللغز ظل لعقود محور اهتمام العلماء، نظرا لما يحمله من دلالات عميقة على فهم النمو الطبيعي والاضطرابات المرضية.
وتركز الدراسة بشكل خاص على مرحلة تعرف باسم "التمعج الجنيني"، وهي من أكثر مراحل التطور حساسية وحسما، حيث يبدأ الجنين بالتحول من كتلة ناعمة خالية من الملامح إلى بنية معقدة مليئة بالطيات والانبعاجات والتخصصات الخلوية. وتعد هذه المرحلة أساسا لتشكل الأعضاء والأنسجة لاحقا.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة، مينج جوو، الأستاذ المشارك في الهندسة الميكانيكية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة، إن هذه المرحلة لا تستغرق سوى نحو ساعة واحدة فقط، لكنها تشهد تغيرات هائلة تحدث على مقياس دقائق.
وأوضح أن القدرة على نمذجة هذه التحولات بدقة زمنية ومكانية عالية تمثل خطوة محورية لفهم الكيفية التي تؤدي بها التفاعلات المحلية الصغيرة بين الخلايا إلى نشوء أنسجة وهياكل معقدة.
واعتمد الفريق البحثي على تطبيق النموذج الجديد على مقاطع فيديو عالية الدقة لأجنة ذبابة الفاكهة، يتألف كل جنين منها من نحو خمسة آلاف خلية. ومع مرور الوقت، تبدأ هذه الخلايا بالانقسام والالتواء وإعادة ترتيب مواقعها، في عملية ديناميكية معقدة استطاع نموذج الذكاء الاصطناعي تتبعها والتنبؤ بمساراتها المستقبلية بدقة لافتة.
ويرى الباحثون أن هذا التطور قد يشكل نقطة انطلاق نحو نمذجة عمليات أكثر تعقيدا في كائنات أعلى، بما في ذلك الإنسان، فضلا عن استخدامه مستقبلا كأداة قوية لفهم الاضطرابات الخلوية المرتبطة بالأمراض والتدخل المبكر فيها، ما يعزز مكانة الذكاء الاصطناعي كرافعة أساسية في أبحاث الطب والأحياء الحديثة.