أعلن وزير الخارجية أسعد حسن الشيباني أن
بلاده انتقلت من مرحلة الصراع إلى مرحلة البحث عن علاقات طبيعية ومتوازنة مع مختلف
دول العالم، بعيدًا عن سياسة المحاور والاصطفافات، مؤكدًا أن
سوريا "حققت
إنجازات مهمة رغم التحديات الثقيلة" التي ورثتها المرحلة الجديدة.
وجاءت تصريحات الشيباني خلال جلسة حملت
عنوان "سوريا الجديدة بعد عام: تقييم التقدم والفرص والتحديات" ضمن
أعمال
منتدى الدوحة 2025، والتي حضرتها
"عربي21"، حيث قدّم قراءة شاملة
لمسار العام الذي تلا الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، واصفًا إياه بـ”المرحلة
المفصلية في تاريخ سوريا الحديث”.
وقال الشيباني إن ما تحقق خلال عام واحد كان
يتطلب في الظروف الطبيعية سنوات طويلة، مشددًا على أن "الإنجاز الأهم تمثّل
في استعادة السوريين ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على إعادة بناء وطنهم بعد سنوات من
الحرب وتفكيك مؤسسات الدولة".
وأوضح أن الحكومة الجديدة ورثت واقعًا
معقدًا يتّسم بـتدهور واسع في البنية المؤسسية وعلاقات خارجية متوترة، إلى جانب
عقوبات اقتصادية خانقة، وفي مقدمتها قانون قيصر، إلا أن المقاربة الجديدة تقوم على
الشفافية والمساءلة وإعادة بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع.
وأشار إلى أن السياسة الخارجية السورية تتجه
نحو التوازن والانفتاح على الجميع، وربط الأمن الداخلي بالأمن الإقليمي والدولي،
بالتوازي مع إطلاق مشاريع تنموية وإعادة تأهيل البنى التحتية وجذب الاستثمارات
الأجنبية.
غير أن الشيباني حذّر من أن العامل
الإسرائيلي يمثل "التهديد الأكبر للاستقرار السوري" منذ ديسمبر 2024،
مطالبًا بانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي دخلتها مؤخرًا، واعتبار ذلك
شرطًا أساسيًا لأي اتفاق أمني محتمل.
واتّهم إسرائيل بمحاولات زعزعة الاستقرار من
خلال تدخلات إعلامية وعسكرية وسياسية، والسعي إلى تغذية الانقسام داخل المجتمع
السوري، محذرًا من أن استمرار هذا النهج ستكون له انعكاسات خطيرة على مستقبل
المنطقة.
وأكد التزام دمشق باتفاقية فصل القوات لعام
1974، لافتًا إلى استمرار المفاوضات غير المباشرة بوساطة أمريكية، مشيرًا إلى أن
الموقف السوري يحظى بدعم دولي متزايد، تُوّج بتصويت أكثر من 25 دولة لصالح التأكيد
على أن الجولان أرض سورية محتلة.
في السياق ذاته، أكد المبعوث الأمريكي الخاص
إلى سوريا، توم باراك، أن
قطر تلعب دورًا "محوريًا وحاسمًا" في استقرار
المنطقة، خاصة في ملفات وقف إطلاق النار والرهائن، إضافة إلى التنسيق مع تركيا في
جهود الوساطة.
واعترف باراك بأن السياسات الغربية في الشرق
الأوسط منذ اتفاقية سايكس بيكو كانت في معظمها خاطئة، مؤكدًا أن واشنطن تعتمد
اليوم نهجًا مغايرًا يقوم على "دعم السوريين لبناء نظامهم وفق خصوصيتهم، لا
فرض نماذج جاهزة عليهم".
وأشار إلى أن الإدارة الأمريكية منحت
الحكومة السورية تقييماً "مرتفعاً" في عدة ملفات حساسة، من بينها توحيد
الفصائل، متابعة ملفات المفقودين، تحسين أوضاع المخيمات، تفكيك المجموعات الأجنبية
وملف الأسلحة الكيميائية، واصفًا ما تحقق بأنه "إنجازات تُقارب البطولة".
وشدد المبعوث الأمريكي على أن بلاده تؤمن
بمبدأ "سوريا بقيادة سورية"، داعيًا المجتمع الدولي لمنح دمشق الوقت
والمساحة الكافيين لتحديد شكل دولتها ونظامها السياسي بعيدا عن التدخلات والضغوط.
وفي موازاة الخطاب الرسمي المتفائل، سلطت
جلسة أخرى ضمن المنتدى الضوء على التحديات العميقة التي لا تزال تواجه سوريا في
مرحلة ما بعد الحرب، تحت عنوان: "التوقعات السورية للمستقبل: التعامل مع
حقائق ما بعد الصراع".
وخلال الجلسة، أكدت وزيرة العمل والشؤون
الاجتماعية هند قبوات أن الوضع الاقتصادي في البلاد "صعب للغاية" نتيجة
سنوات الحرب والفساد، مشيرة إلى تحركات حكومية لمعالجة المشكلات، وخلق فرص عمل،
وتعزيز التدريب المهني والحماية الاجتماعية، مع التأكيد على دمج المجتمع المدني
وإشراك المواطنين في عملية اتخاذ القرار.
من جانبه، شدد رئيس هيئة التخطيط والإحصاء
أنس سليم على أن تحقيق الانفراج الاقتصادي مرهون بتحقيق السلم والأمن الاجتماعي،
معتبرًا أن المواطن السوري لم يعد يخاف اليوم كما كان في السابق، لكن طريق التعافي
لا يزال طويلاً ويتطلب استراتيجيات دقيقة وشاملة.
أما مدير مكتب مبعوث الأمم المتحدة في دمشق
طارق تلاحمة، فلفت إلى أن الأزمة السورية لا يمكن اختزالها في بعدها الإنساني فقط،
بل هي نتيجة نظام سعى إلى تجريد الإنسان من كرامته وحقوقه، ما يستوجب مقاربة أوسع
للعدالة وإعادة بناء الدولة والمجتمع.
وبالأرقام، كشف مدير "الباروميتر
العربي" مايكل روبنز عن نتائج استطلاعات مقلقة؛ إذ أظهرت أن: 86% من السوريين لا
يستطيعون تغطية احتياجاتهم الأساسية، 73% لا يملكون المال الكافي لشراء الطعام، 70% يرون أن الانقسام
الاجتماعي وعدم التسامح يشكلان خطرًا على وحدة المجتمع.
وأكد أن السوريين يرون في العدالة
الانتقالية وتجاوز الماضي ضرورة لضمان عدم العودة إلى دائرة العنف، مع إيمان واسع
بضرورة الدعم الخارجي لإعادة الإعمار، وصورة إيجابية تجاه دول مثل قطر والسعودية
وتركيا لدعمها الشعب السوري خلال سنوات الحرب.
وعلى الصعيد الداخلي، أشار الشيباني إلى
تقدم ملحوظ في قطاعات الطاقة والأمن والمواصلات، وتحسّن في الحريات والمشاركة
المجتمعية، معربًا عن تفاؤله بأن يكون عام 2026 نقطة تحوّل اقتصادي كبرى، مع عودة
الصناعة وتزايد اهتمام شركات أمريكية وقطرية وسعودية وتركية بالاستثمار في البلاد.
واختتم وزير الخارجية السوري كلمته بالقول: "سوريا لم تعد مصدر تهديد، بل أصبحت
مصدر إلهام، وشعبها ينظر إلى المستقبل بثقة لا بخوف"، في عبارة تلخص خطاب
مرحلة جديدة تأمل دمشق أن تطوي بها صفحة الحرب، وتفتح باب البناء والانفتاح على
العالم.