قضايا وآراء

لماذا يُعتبر الابتزاز الذي تمارسه تل أبيب مقابل إدخال المساعدات علامة ضعف وخوف؟

إسرائيل تُقاتل اليوم ليس ضد غزة وحدها، بل ضد الحقيقة نفسها. تخشى القانون، وتخشى الذاكرة، وتخشى أن تنكسر صورة القوة التي بنتها على أنقاض الأبرياء.. الأناضول
لأن القوي لا يحتاج أن يُقنع العالم بوجوده، ولا يطلب من المنظمات الإنسانية أن توقّع له على صكّ اعتراف بهويته قبل أن تُدخل الدواء إلى الأطفال. من يفرض مثل هذه الشروط لا يُظهر سلطة، بل يكشف قلقًا داخليًا من نفسه، وخوفًا من العدالة، وارتباكًا في شرعيته.

منذ وقف إطلاق النار الهش في تشرين الأول/أكتوبر 2025، تُمارس تل أبيب نوعًا جديدًا من الإبادة، عنوانه الابتزاز الإنساني والسياسي. تُبطئ دخول المساعدات، وتتحكم في كل شاحنة ودواء ومأوى، لكنها تضيف إلى ذلك شرطًا لا مثيل له في تاريخ الصراعات: أن تعترف المنظمات الإغاثية بما تُسميه “يهودية الدولة”، وأن تُعلن رفضها لأي تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية.

وهنا لا بدّ من رفضٍ قاطعٍ ومبدئي لهذا المفهوم أصلًا. فـ”يهودية الدولة” ليست توصيفًا جغرافيًا أو سياسيًا عابرًا، بل مشروع عنصري يقوم على إقصاء السكان الأصليين ونفي الآخر من الوجود.

فلسطين عبر تاريخها لم تكن يومًا دولة دينية، بل كانت فضاءً رحبًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود على حدٍّ سواء، في ظل أغلبيةٍ مسلمةٍ احتضنت الأقليات ووفّرت لها الأمن والكرامة.

منذ وقف إطلاق النار الهش في تشرين الأول/أكتوبر 2025، تُمارس تل أبيب نوعًا جديدًا من الإبادة، عنوانه الابتزاز الإنساني والسياسي. تُبطئ دخول المساعدات، وتتحكم في كل شاحنة ودواء ومأوى، لكنها تضيف إلى ذلك شرطًا لا مثيل له في تاريخ الصراعات: أن تعترف المنظمات الإغاثية بما تُسميه “يهودية الدولة”، وأن تُعلن رفضها لأي تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية.
أما المشروع الصهيوني، فقد سعى ـ وما يزال ـ إلى قلب هذه المعادلة الديمغرافية بالقوة والتهجير والحصار، ليحوّل هوية الأرض من تعدديةٍ إنسانيةٍ عريقة إلى كيانٍ أيديولوجيٍ مغلقٍ يفرض نفسه بالسلاح وبالابتزاز.

أيّ كيانٍ هذا الذي يطلب من الآخرين أن يُقرّوا له بهويته قبل أن يسمح لهم بإنقاذ الجرحى؟ هل الواثق من نفسه بحاجةٍ إلى من يوقّع له على شهادة وجوده؟ وكيف لمن يزعم أنه “دولة ديمقراطية” أن لا يطمئن إلى ذاته إلا حين يُقرّ له العالم بأنه “دولة يهودية”؟

إن ما تفعله تل أبيب ليس تنظيمًا لعمل الإغاثة، بل هندسة سياسية للولاء، ومحاولة لتبييض جرائمها عبر تحويل العمل الإنساني إلى جسر اعتراف بشرعية القاتل.

الخبز هنا ليس خبزًا، بل وثيقة اعتراف. الدواء ليس دواءً، بل تعهدٌ بعدم المحاسبة. وهذه ليست إدارة أزمة، بل انقلاب على أبسط القيم الأخلاقية والقانونية.

الاحتلال لا يخاف من العدالة وحدها، بل من كل ما يمكن أن يوقظه على هشاشته. يخاف من المقاومة لأنها تذكّره بضعفه، ويخاف من العدالة لأنها تفضحه، ويخاف حتى من الحلم، من فكرةٍ أو من صوتٍ أو من طفلٍ يحمل حجرًا في ذاكرته. فهو كيان لا يعيش إلا بالخوف، ولا يحكم إلا به، لأنه لا يثق بنفسه أصلًا.

ولهذا يحاول اليوم إغلاق أبواب الحقيقة جميعها: يحوّل الإنسانية إلى قضية سياسية، ويطلب من كل منظمة أن تنكر العدالة قبل أن تُنقذ الإنسان، وأن تجعل من كل جهدٍ إنساني شهادة ولاءٍ له.

تظهر ازدواجية المعايير بوضوح صارخ: لو فعلت المقاومة ـ ولو لمرة واحدة ـ أن احتجزت جثمان أسيرٍ بعد الإعلان عن العثور عليه، لامتلأت الشاشات والبرلمانات بالضجيج. لكن عندما يحرم الاحتلال ملايين المدنيين من الدواء والطعام والمأوى، وعندما تُشترط المساعدات باعتراف سياسي، يكتفي كثيرون بالحديث التقني عن "إجراءات" و"تدقيق" بدل أن ينددوا بجريمة إنسانية صريحة.

الفرق ليس في الفعل، بل في من يُمارسه ومن هم الضحايا.

اليوم، لا يقاس الحصار فقط بما يدخل من مساعدات، بل بما يُمنع من حياة. الأدوية تُحتجز، والمعابر تُقفل، والمأوى يُؤجل، لأن الاحتلال يريد أن يُثبت أنه ما زال المتحكم الوحيد في تفاصيل حياة الناس وموتهم. إنه لا يُمارس القوة بقدر ما يُخفي الخوف من فقدان السيطرة.

أما حين يحتجز الاحتلال شعبًا كاملًا حيًّا، ويمنع عنه الدواء والماء والكرامة، ويبتزّ العالم بشروطٍ سياسية مقابل مرور المساعدات، يصمت الجميع. هذا الصمت ليس حيادًا، بل تواطؤٌ مع جريمة متكاملة الأركان.

غزة لا تطلب من أحدٍ أن يمنحها الحياة، فهي تصنعها رغم الجدران. لكن العالم مدعوّ لأن يفهم أن ما تمارسه تل أبيب اليوم ليس دليلًا على قوتها، بل اعترافٌ ضمني بضعفها البنيوي. فمن كان مطمئنًا إلى شرعيته لا يخاف من العدالة، ومن كان واثقًا من هويته لا يحتاج أن يُرغم الآخرين على ترديدها.
غزة لا تطلب من أحدٍ أن يمنحها الحياة، فهي تصنعها رغم الجدران. لكن العالم مدعوّ لأن يفهم أن ما تمارسه تل أبيب اليوم ليس دليلًا على قوتها، بل اعترافٌ ضمني بضعفها البنيوي. فمن كان مطمئنًا إلى شرعيته لا يخاف من العدالة، ومن كان واثقًا من هويته لا يحتاج أن يُرغم الآخرين على ترديدها.

إسرائيل تُقاتل اليوم ليس ضد غزة وحدها، بل ضد الحقيقة نفسها. تخشى القانون، وتخشى الذاكرة، وتخشى أن تنكسر صورة القوة التي بنتها على أنقاض الأبرياء.

ولهذا، فإن الابتزاز الذي تمارسه باسم "الإجراءات الإنسانية" ليس سوى ستارٍ لرعبٍ أعمق: رعبُ المذنب من العدالة، ورعبُ الكيان المصطنع من النظر في مرآة تاريخه. فمن يخاف العدالة لا يملك رواية، ومن يحتاج إلى اعتراف الآخرين بوجوده فقد كتب بيده شهادة زواله.