مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ بعد
عامين من حرب الإبادة، تبدو الصورة أكثر وضوحا من أي وقتٍ مضى:
الاحتلال لم ينتصر،
وغزة لم تنكسر. فعلى الرغم من حجم الدمار الذي لا يُقاس والآلام التي لا تُوصف، فإن
ما حدث لم يكن نصرا لإسرائيل بقدر ما كان انكشافا شاملا لعجزها أمام العالم، وفشلا
ذريعا في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والأخلاقية.
وعد قادة الاحتلال منذ اليوم الأول بـ"القضاء
على
المقاومة" و"تطهير
غزة" و"استعادة الردع"، لكن الوقائع
جاءت معاكسة لكل تلك الشعارات. فالمقاومة لم تُهزم رغم الحصار الطويل والقصف المتواصل،
بل بقيت فاعلة وصامدة ومتماسكة في إدارتها للميدان، بينما فقد الجيش الإسرائيلي هيبته
وتبددت صورة "الجيش الذي لا يُقهر".
أصبحت إسرائيل، لأول مرة منذ تأسيسها، كيانا منبوذا أخلاقيا، مطعونا في شرعيته، فاقدا لمكانته السابقة كـ"دولة ديمقراطية تدافع عن نفسها"
لم تستطع تل أبيب اغتيال كل قادة المقاومة،
ولا تدمير بنيتها، ولا فرض واقع سياسي جديد كما كانت تخطط؛ كل ما أنجزته هو قتل عشرات
الآلاف من المدنيين وتدمير البنية التحتية وارتكاب مجازر وصفتها الأمم المتحدة بأنها
ترقى إلى "الإبادة الجماعية".
خارج الميدان، كانت الصورة أكثر انكشافا؛ اقتصاديا،
تكبدت دولة الاحتلال خسائر غير مسبوقة، إذ قُدرت الكلفة المباشرة للحرب بعشرات المليارات
من الدولارات، وتوقفت الاستثمارات الأجنبية بشكل شبه كلي، وانهار قطاع السياحة. أما
داخليا، فقد تفاقمت الانقسامات بين اليمين المتطرف والعلمانيين، وتصاعدت موجات الهجرة
العكسية وسط شعورٍ متزايدٍ بالخوف والاضطراب.
سياسيا، تراجعت مكانة تل أبيب في العالم، وبدأت
برلمانات وأحزاب كبرى في أوروبا تطالب بفرض عقوبات عليها، فيما فقدت دعما شعبيا واسعا
في الولايات المتحدة نفسها. لقد أصبحت إسرائيل، لأول مرة منذ تأسيسها، كيانا منبوذا
أخلاقيا، مطعونا في شرعيته، فاقدا لمكانته السابقة كـ"دولة ديمقراطية تدافع عن
نفسها".
أما غزة، التي أرادوا محوها من الوجود، فلم
تنكسر. لم تنتصر بالنصر العسكري المباشر، لكنها انتصرت بإرادتها وبقدرتها على البقاء
رغم كل محاولات الإبادة. لم يستطع القصف أن يمحو روحها، ولا أن يُطفئ شعلة الإيمان
في قلوب أهلها.
تحولت الإبادة إلى نقطة فاصلة في الوعي الإنساني العالمي، فقد انتصرت الرواية الفلسطينية أخلاقيا وإعلاميا للمرة الأولى بهذا الوضوح، وتراجعت آلة الدعاية الإسرائيلية أمام زخم الحقيقة
من بين الأنقاض ووسط الدمار، ظل الناس متمسكين بالحياة، يدفنون شهداءهم
بأيديهم ثم يعيدون فتح المدارس في الخيام.
لقد تحولت الإبادة إلى نقطة فاصلة في
الوعي
الإنساني العالمي، فقد انتصرت الرواية الفلسطينية أخلاقيا وإعلاميا للمرة الأولى بهذا
الوضوح، وتراجعت آلة الدعاية الإسرائيلية أمام زخم الحقيقة؛ رأى العالم كله صور الأطفال
تحت الركام والمستشفيات المحاصرة والمجازر التي لم يعد ممكنا إنكارها. وفي حين خرجت تل أبيب من عدوانها كيانا مهزوزا
مكشوفا أخلاقيا حتى أمام حلفائها، ازدادت المقاومة رسوخا في وجدان الفلسطينيين، وتحولت
إلى عنوانٍ للكرامة والصمود في زمن الانكسار.
لقد خسر الصهاينة ما هو أهم من الجنود والمعدات:
خسروا صورتهم وشرعيتهم المزعومة ومكانتهم في الضمير الإنساني. أما غزة، فقد قدمت فلذات
أكبادها وبُنيتها التحتية، لكنها لم تخسر روحها. بقيت كما كانت دائما، الجرح الذي يفضح
الكذب، والرمز الذي يُعيد تعريف معنى الصمود.
لقد انتهت الحرب حاليا، لكن المعركة الأهم
بدأت: معركة الوعي، التي كسرت فيها غزة الصمت العالمي وأسقطت قناع الدولة التي ادّعت
أنها الضحية، فإذا بها الجلاد. وتبقى الحقيقة الأوضح في ميزان التاريخ: من فقد ضميره
لا يمكن أن ينتصر، ومن تمسك بحقه لا يمكن أن يُهزم.