إذا صحت الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام عن التفكير
في تعيين رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني
بلير (72 سنة) حاكما انتقاليا لغزة، فإننا
نكون أمام مشهد سوريالي لئيم، تتعدد فيه الأغراض اللئيمة، بدأ من التغطية على
الهزيمة الاستراتيجية التي تلقتها الدولة الصهيونية على كل مستويات المواجهة، مرورا
بمنع تكوّن حالة فلسطينية خالصة في التعاطي التاريخي مع مجريات الأحداث على أرض
فلسطينية خالصة، والأهم، بقرار فلسطيني خالص، بعد أن قالت
المقاومة كلمتها مبادرة
وابتداء في 7 أكتوبر، وتحملت (مقاومة وشعبا) كل عواقب هذه الكلمة؛ وانتهاء بمنع
تنامي وتعاظم وانتشار الروح التي تجلت على مدار سنتين، في تلك المواجهة التاريخية
بين الشرق والغرب في أرض
غزة، وقدمت فيها المقاومة الصورة المثلى لما تنبغي أن
تكون عليه هذه المواجهة، إعدادا وتكوينا وتنفيذا، الأمر الذي فتح "بوابات
الممكن" على اتساعها تجاه فكرة السعي إلى تحقيق غاية وهدف، والعمل الجاد في سبيل
ذلك، والنجاح في إدراك ذلك، وفق سنن الكون وطبيعة الأشياء..
* * *
الواقع المنظور يقول لنا إن دولة
الاحتلال بعد "طوفان
الأقصى" تعيش حالة من التراجع والاهتزاز غير مسبوقة في تاريخها كله من يوم
التأسيس الأول، على مستوى الداخل (المجتمع والدولة والجيش)، وعلى مستوى الخارج
الذي تواجه فيه تسونامي دوليا (بوصف قادتها) يعصف بكل ما سعت لتأسيسه في الأذهان، عبر
عقود من التضليل والخداع والتزييف الإعلامي الهائل..
الإصرار على منع المقاومة من أن يكون لها دور في المستقبل، ولا حتى أي من الفصائل الفلسطينية، هو في الصميم تأكيد على فكرة حرمان "الفلسطيني المقاوم" من أن يكون صاحب الفعل الأول، وأيضا صاحب نتائجه وثماره
وستنتهي الحرب وهي في حالة من العجز الظاهر عن تحقيق أي
هدف خاضت من أجله هذه الحرب، فقط "القتل العبثي" كما قيل بحق. على أن المسألة
لن تكون هزيمة لليمين الحاكم فقط، ولكن هزيمة كاملة للمشروع الصهيوني كله، بعد أن
أوضحت هذه الحرب أنه عبء ثقيل على اليهود واليهودية، وأنه ضد الإنسان والإنسانية.
هزيمة هذه المشروع وتخلخل أركانه دوليا لهو حدث ضخم، ويمس
مصالح كبرى لدول وشركات وأشخاص تجمعهم شبكة مركبة ومُحكمة من الترابط والتنظيم
والتواصل والتوارث، وسنجد مثلا أن توني بلير أحد الشخصيات الهامة في هذا التنظيم،
وهو أمر يسهل استنتاجه، من وقت أن كان رئيسا للوزراء في بريطانيا ودوره المريب في
الحرب على العراق وقتها، إلى الدور الدولي الذي يقوم به من بعد خروجه من الحكم،
خاصة في منطقة الشرق الأوسط بكل تقاطعات خطوطها.
* * *
اعتاد الشرق الأوسط من بعد خروج الاحتلال وقيام دولة
الاستقلال، على تلقي الأفعال والتعامل معها بعد أن تتحول إلى واقع، وبردود فعل
تتراوح بين التغافل والتواطؤ، حتى كان السابع من أكتوبر والذي دشن فكرة التقدم
والانطلاق في وجه العدو، استنادا لفهم عميق للآية الكريمة "ادخلوا عليهم
الباب.."، وكانت بحق الشعار لطوفان الأقصى.
ويبدو من المسح السريع للسنتين الماضيتين أن هذا الفعل
التاريخي لم يكن "خبط عشواء"، بل يبدو أنه تم اعتصار كل نتائجه المتوقعة
اعتصارا، ومد خطوطها إلى كل ما يمكن توقعه على المدى القريب والبعيد، وعلى الدرجات
الدنيا والقصوى، وكان بحق نموذجا في نهج "أعد لكل أمر قرينه" كما كان
يوصف الفاروق رضى الله عنه.
وتأتي فكرة "اليوم التالي" لانتهاء الحرب، لتكون
لحظة المواجهة المحتدمة مع الطرف الآخر المحتشد عربيا ودوليا حول المشهد، لاختطاف "زمام
المبادرة" الذي أحكمت المقاومة قبضتها عليه من اليوم الأول للحرب.. وما كان
اجتماع الرئيس الأمريكي مع القادة العرب والمسلمين في نيويورك الأسبوع الماضي إلا
أحد وجوه هذه المواجهة، وطرح فكرة حاكم انتقالي مؤقت، وأن يكون شخصا غربيا، ومعروفا
بعدائه القديم للشرق، بل للفكرة الدينية في تياراتها الإصلاحية والسياسية؛ يؤكد كل
هذه الاحتمالات والتوقعات. كما أن الإصرار على منع المقاومة من أن يكون لها دور في
المستقبل، ولا حتى أي من الفصائل الفلسطينية، هو في الصميم تأكيد على فكرة حرمان "الفلسطيني
المقاوم" من أن يكون صاحب الفعل الأول، وأيضا صاحب نتائجه وثماره.
***
كل من يتابع الشأن العراقي يعرف جيدا ماذا فعله بريمر في العراق خاصة في ملفي "إعادة الإعمار" و"التأهيل السياسي" للبلاد.. ولا زيادة لمزيد في هذا الموضوع. وما فعله بريمر سينسخه نسخا توني بلير في غزة
كانت عملية طوفان الأقصى بكل زخمها وعنفوانها حالة "نوعيه
كبرى" في الوعي العربي العام، على مستوى البناء الداخلي للمقاومة والحاضنة
الأعظم لها من أهل العزائم والأنوار، وعلى مستوى المواجهة مع العدو في مداها الأقصى،
وهو أمر لن يمر في حركة التاريخ مرورا عابرا، مثلما مر غيره من الأحداث، الباردة المترددة
البليدة في مسار القضية المركزية للأمة الإسلامية كلها (وفي القلب منها القدس
والأقصى).. وعلى مدى قيام هذا الصراع، وتحديدا من بعد قيام دولة الاستقلال وخروج الاحتلال.
وسنرى أن حرص المقاومة على توثيق مشاهد الإعداد والمواجهة،
كان حرصا فائق الإبداع والقدرة والنفع، وذا أهمية بالغة في تاريخ الشرق الأوسط كله،
بكل تعقيداته التي صنعها الغرب/ الصهيوني صنعا، في فترة بين الحربين، وبعد الحرب
العالمية الثانية، وهو ما يتندر به المبعوث الأمريكي في سوريا ولبنان توماس باراك؛
بفذلكة رخيصة عن غياب فكرة الدولة والأمة في المنطقة العربية، وحسنا فعل الصديق
الكريم د. بشير نافع حين وصفه بأنه "مستشرق من النوع الرديء".. في تغريده
له تعقيبا على مقولته تلك.
* * *
في 12 أيار/ مايو 2003م قرأ الناس هذه الخبر الذي عم
وكالات الأنباء في العالم كله: "وصل إلى بغداد اليوم رئيس الإدارة المدنية
الجديد في العراق الدبلوماسي الأمريكي بول بريمر، لتولي مسؤولية إعادة
إعمار
البلاد وتأهيلها سياسيا بعد الحرب التي أطاحت بالرئيس العراقي صدام حسين".
وكل من يتابع الشأن العراقي يعرف جيدا ماذا فعله بريمر
في العراق خاصة في ملفي "إعادة الإعمار" و"التأهيل السياسي"
للبلاد.. ولا زيادة لمزيد في هذا الموضوع. وما فعله بريمر سينسخه نسخا توني بلير في غزة إذا -لا
قدر الله- وجاء إلى غزة ليكون حاكما انتقاليا، وليكون بريمر جديدا.
x.com/helhamamy