قضايا وآراء

الخطة الأمريكية بين غياب التوافق العربي وغياب الضمانات الإسرائيلية

"طُرحت الخطة في أسبوع الجمعية العامة للأمم المتحدة"- جيتي
الفكرة الأساسية في الخطة الأمريكية ذات الواحد والعشرين بندا لا تكمن في تفاصيلها التقنية، من وقف إطلاق نار وانسحاب متدرج وهيئة انتقالية لإدارة غزة، بقدر ما تكمن في طبيعتها كنموذج حكم انتقالي طويل الأمد. فهي محاولة لإدارة حرب مكلفة بتوزيع أعبائها على شبكة أوسع من الفاعلين العرب والدوليين، بدل الدخول في معركة التسوية النهائية المستحيلة الآن. بذلك، يُستبدل الحل النهائي الذي تعذر تحقيقه بإدارة قابلة للقياس وتشرعن بمؤتمر دولي وغطاء أممي وعربي جزئي، من غير قرار ملزم من مجلس الأمن. ولهذا طُرحت الخطة في أسبوع الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع إعلان المبعوث الأمريكي عن اختراق قريب، وكأنها آلية عبور مؤقتة أكثر منها وثيقة حسم.

العقدة الأولى التي تعترض الخطة تكمن في غياب توافق عربي حقيقي، فإذا لم يتوفر، تحولت الهيئة الانتقالية في غزة إلى مجرد إدارة أزمة بتمويل عربي وبختم دولي، لا إلى رافعة سياسية نحو الدولة. والعقدة الثانية، والأعمق، هي قابلية إسرائيل للالتزام. فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية قائمة على اليد الطويلة بلا قيود زمنية، والخطة تخلو من أي إلزام قانوني صادر عن مجلس الأمن، والولايات المتحدة نفسها هي حامل الفيتو الذي عطل أي قرار مقيد لتل أبيب. لذلك يصبح الالتزام الإسرائيلي ممكنا فقط عبر أدوات ضغط مؤسسية ومالية مشروطة، لا عبر النصوص.

إدراك أن قدرة العرب التفاوضية تتزايد عندما يمتلكون أوراق قوة خارج القنوات التقليدية. وعليه، ينبغي أن يربط أي دعم للخطة بضمانات أمنية إقليمية، لا بوعود عامة

إن طرح فكرة هيئة انتقالية يرأسها توني بلير تحت عنوان (GITA) يعبر عن تصور لسيادة مجزأة ومؤجلة؛ تبدأ من خارج القطاع وتدخل إليه بقوة حفظ سلام يغلب عليها الطابع العربي، ثم تنشأ بنية خدمات ورقابة قانونية تسبق أي نقاش في السيادة. إنه تعليق منظم لمسألة الدولة مقابل تحسين الحياة اليومية، وهو ما يطمئن الممولين لكنه يثير قلق الفلسطينيين الذين يرون فيه وصاية دولية تعيد إنتاج الاحتلال بصياغة إدارية.

أما العرب، فالمطلوب منهم أن يتجاوزوا شعار الإجماع الذي يستهلك طاقتهم أكثر مما يبني موقفا فاعلا. الأكثر نجاعة هو ائتلاف وظيفي عربي يقوم على ثلاثية صلبة: شروط دخول واضحة تمنع التهجير والهندسة الديمغرافية وتؤكد مسارا لإنهاء السيطرة العسكرية، ومشروطية دقيقة تجعل التمويل والإسناد الأمني مرهونين بمؤشرات تقدم ملموسة، وآلية قياس وإيقاف توقف الدفعات عند أي إخلال وتفعّل الضغط الدبلوماسي والاقتصادي. بذلك تتحول المشاركة العربية من منحة مجانية للشرعية إلى أداة لصناعة الالتزام.

الحكومة الإسرائيلية، في المقابل، تسعى إلى تهدئة تبقي لها حق الدخول والخروج الأمني، وتمنع قيام سلطة فلسطينية مستقلة، وأي صيغة انتقالية لا تعالج هذه المعضلة ستُقرأ في تل أبيب كهدنة تكتيكية. لذلك لا بد من تصميم الانسحاب داخل نظام مفاتيح ثلاثي: مفتاح أمني عربي للفصل والمراقبة، مفتاح قانوني أممي بولاية واضحة تجرم الارتداد، ومفتاح مالي يوقف التمويل عند الإخلال. من دون ذلك سيتحول الانتقال إلى مقاولة باطن (Subcontracting) لخفض كلفة الاحتلال.

وفي خلفية كل ذلك، يبرز الاقتصاد السياسي للإعمار. فالإعمار، إذا أُدير بمنطق المانحين وحدهم، سيتحول إلى ماكينة ريع وزبائنية جديدة. أما إذا أُنشئت مجالس بلدية منتخبة، وشارك المجتمع المدني في الرقابة، ووضعت لوحات متابعة علنية لسلاسل التوريد، وأُنشئ قضاء إداري سريع، حينها يصبح الإعمار رافعة للشرعية الداخلية، لا مجرد غطاء تجميلي.

البيئة الإقليمية بدورها تغير الحسابات، فالاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني ألقى ظلا نوويا في معادلات الردع، ما رفع كلفة تجاهل المصالح العربية. ليس المطلوب مظلة نووية فورية، بل إدراك أن قدرة العرب التفاوضية تتزايد عندما يمتلكون أوراق قوة خارج القنوات التقليدية. وعليه، ينبغي أن يربط أي دعم للخطة بضمانات أمنية إقليمية، لا بوعود عامة.

الخطة الأمريكية ليست سلاما، بل بروتوكول إدارة يمكن أن يتحول إما إلى جسر نحو السياسة أو إلى نظام استثناء دائم

ولكي يصبح المسار قابلا للمساءلة، لا بد من مؤشرات قياس دقيقة تربط بالتمويل وبوتيرة الانسحاب: مؤشرات حركة البشر والبضائع عبر البوابات، ومؤشرات خدمات كالكهرباء والمياه والإسعاف تنشر علنا، وخطوات للعدالة الانتقالية من كشف مفقودين وتعويضات، وخارطة مؤسسية تبدأ بتوحيد الجباية وتنتهي بانتخابات بلدية وتشريعية. هذه المؤشرات تجعل الانتقال قابلا للقياس العام، بدل أن يبقى ورقة تفاوض بين العواصم.

ومع ذلك، يبقى السؤال: ما الذي يغير المعادلة فعلا؟ وجود قرار إطار من مجلس الأمن يحدد ولاية الهيئة الانتقالية ويربط أي ترتيبات بمرجعية حل الدولتين كان سيختصر الكثير من الجدل. لكن مع غياب هذا القرار بسبب الفيتو، تبقى الإلزامية المصنعة، أي التمويل المشروط والقوة العربية الأممية وآلية وقف وتشغيل الالتزامات، السبيل الوحيد لتحويل الخطة من وعد سياسي إلى مسار ذي أسنان.

وعليه، فإن الخطة الأمريكية ليست سلاما، بل بروتوكول إدارة يمكن أن يتحول إما إلى جسر نحو السياسة أو إلى نظام استثناء دائم. وما سيحسم الاتجاه هو ثلاث دوائر مترابطة: ائتلاف عربي وظيفي يفرض الشروط ويقيس التقدم، ومفاتيح ثلاثية تجعل كلفة الإخلال الإسرائيلي أكبر من كلفة الالتزام، وغطاء أممي يضبط المسار، وإن غاب القرار الملزم. بين وهْم أن الوقت يحل وواقع أنه يجمّد، يبقى التحدي: هل يمكن بناء إلزامية بلا مجلس أمن عبر هندسة ذكية؟ أم أننا أمام هدنة طويلة تدار بالأموال وتقوضها الوقائع الميدانية متى شاءت تل أبيب؟