لم تكن
لحظة إعلان فوز كاثرين كونولي برئاسة جمهورية أيرلندا مناسبة بروتوكولية عادية، بل
كانت صفعة مدوية للمنظومة التي اعتادت أن تحتكر الخطاب الأخلاقي في الغرب، بينما تبرر
قتل الأطفال وقصف المستشفيات في غزة. فشخصية مستقلة، واضحة وصريحة، تقف مع الضحية لا
مع الجلاد، صعدت إلى أعلى منصب رمزي في البلاد رغم كل محاولات التحريض التي سبقت الانتخابات،
ورغم عواء اللوبيات الداعمة للاحتلال التي استشعرت الخطر وخسرت المعركة قبل أن تبدأ.
أيرلندا
تعرف جيدا معنى الاحتلال، ولذلك لم يكن تضامنها مع
فلسطين مجرد موجة عاطفية عابرة.
فالشعب الذي يحمل ذاكرة القهر البريطاني لا يمكن أن تخدعه بروباغندا تسوّق مجازر الاحتلال
بوصفها "دفاعا عن النفس". ولهذا، عندما ارتفعت أصوات الملايين في غزة تحت
الركام، وجدت صدى طبيعيا في الضمير الأيرلندي، تماما كما عبّر نيلسون مانديلا حين قال:
"نحن نعرف جميعا أن حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين".
فوز كونولي، رغم رمزية المنصب، يحمل دلالة أكبر من حدود الصلاحيات. إنه إعلان عن تحوّل في الوعي، عن أوروبا شعبية بدأت تسبق أوروبا الرسمية، عن جيل جديد يقرأ الحقيقة بأعينه لا بعدسات الإعلام الموجَّه
ولهذا المعنى
العميق صوّت الناس لكونولي: لأنها قالت الحقيقة في زمن يهرب فيه السياسيون من الحقيقة.
منذ اللحظة
الأولى لفوزها، أصيبت اللوبيات المؤيدة للاحتلال بالذعر، لأنها تدرك أن هزيمتها لا
تكون فقط في البرلمانات أو الجامعات، بل في المعركة الأهم: معركة
الرواية. تلك اللوبيات
أقامت مأتما سياسيا، وأطلقت حملة تحريض ضد الرئيسة الجديدة، لأنها تعلم أن أكبر تهديد
لمشروعها ليس الصواريخ ولا الجيوش، بل سقوط القناع. فالاحتلال يعيش على الأكاذيب، تماما
كما كتب فرانز فانون: "قد يقتل الاستعمار كل شيء فينا إلا رغبتنا في التحرر".
وما تخشاه تل أبيب فعلا هو أن تتسع مساحة الحقيقة في الوعي الأوروبي، وأن يخرج من داخل
النظام الغربي من يقول علنا: "هؤلاء يرتكبون إبادة، لا دفاعا عن النفس".
كونولي
لم تقدّم خطابات رمادية، ولم تساوِ بين الضحية والجلاد، بل وضعت إصبعها على الجرح،
وواجهت النفاق الغربي الذي يقدّس حياة الإنسان إذا كان غربيا، ويجد ألف تبرير لقتله
إذا كان فلسطينيا. وهذا بالضبط هو ما يفسر الغضب الإسرائيلي والإعلامي تجاهها؛ لأن
مجرد وجود رئيسة أيرلندية لا تخضع للابتزاز، يعني أن الرواية الأحادية لم تعد مطلقة،
وأن هناك شروخا واضحة في جدار الهيمنة الخطابية التي طالما اعتمدت عليها تل أبيب في
أوروبا.
إن فوز
كونولي، رغم رمزية المنصب، يحمل دلالة أكبر من حدود الصلاحيات. إنه إعلان عن تحوّل
في الوعي، عن أوروبا شعبية بدأت تسبق أوروبا الرسمية، عن جيل جديد يقرأ الحقيقة بأعينه
لا بعدسات الإعلام الموجَّه. وهذه الرمزية أقوى من أي منصب؛ لأن المعركة على فلسطين
هي معركة أخلاق قبل أن تكون معركة سيادة. وكما كتب إيميه سيزير: "كل استعمار هو
حضارة زائفة، ومصيره دائما إلى السقوط". والسقوط هنا يبدأ دائما من سقوط الشرعية
الأخلاقية،
الشعب الفلسطيني، وهو يرى رئيسة دولة أوروبية تعلن بوضوح انحيازها له، يتأكد أن الصوت الحر قد يُحاصر لكنه لا يُهزم
وهذا تحديدا ما أصاب مشروع الاحتلال منذ أن بدأت غزة تكسر الحصار بالسرد
والصمود قبل الحجر والسلاح.
إن الشعب
الفلسطيني، وهو يرى رئيسة دولة أوروبية تعلن بوضوح انحيازها له، يتأكد أن الصوت الحر
قد يُحاصر لكنه لا يُهزم. وكما كتب غسان كنفاني: "الغاصب هو الذي يبدأ القتل،
أما المقاومة فهي التي تبدأ الحياة". وهذا المعنى هو الذي تخشاه المؤسسة الداعمة
للاحتلال، لأنه يُعيد تعريف المقاومة باعتبارها شرفا ووعيا وحقا طبيعيا، لا تهمة كما
تحاول ماكينات التشويه أن تروّج.
كونولي
اليوم لا تغيّر وحدها المعادلة، لكنها تفتح الباب، وما علينا كفلسطينيين في الشتات
إلا أن نستثمر هذه اللحظات، وأن نفهم أن وعيا يكبر في الغرب، وأن هزيمة الرواية
الصهيونية
ليست حلما رومانسيا، بل مسارا تاريخيا يجري أمام أعيننا. فالتاريخ -مهما طال الليل- لا
يقف مع القتلة، ولا يغفر للمستعمرين، بل ينحاز في النهاية للأحرار. وفي اللحظة التي
تبدأ فيها الحقائق بالظهور، يصبح صراخ اللوبيات المؤيدة للاحتلال مجرد نشاز أخلاقي
في مشهد إنساني يتغيّر.
لقد خسرت
تل أبيب اليوم جولة في ميدان المعنى، وربحت فلسطين صوتا جديدا في منصة دولية وازنة.
وهذه بداية وليست نهاية، لأن العدالة لا تموت.. ولأن الشعوب التي تقاوم -مهما طال القيد- ستفرض
روايتها في النهاية.