شهدت
القارة الأوروبية خلال الأشهر القليلة الماضية تحولات نوعية إيجابية نحو شيء من
الإنصاف للقضية
الفلسطينية، وكذلك التوقف الاستنكاري ضد مذابح الإبادة الجماعية
والتطهير العرقي التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي وجنودها خلال السنتين
الماضيتين ودون توقف، وقد راح ضحية هذه الجرائم الوحشيّة أكثر من ربع مليون
فلسطيني غزيّ بين شهيد وجريح ومفقود حسب احصاءات وزارة الصحة المحلية في
غزة.
وتتمظهر
المواقف السياسية المختلفة والمنوعة من قبل كتلة أوروبية وازنة عددا وأثرا، لتشكل
أجواء داعمة لفلسطين غير مسبوقة، وتدفع نحو وضع دولة الاحتلال في درجات من التراجع
بل وشيء من العزلة لم تكن تتوقعها خلال العقود الماضية منذ قيامها ونكبة فلسطين،
سادت خلالها أجواء وئام وعلاقات استراتيجية كانت تتمتع بها مع دول الاتحاد الأوروبي
على الصعيد القاري والقُطري على حد سواء.
عوامل عديدة ساهمت وبدرجات في أن تنحى الدول الأوروبية نحو الوقوف في سياسيات معارضة لممارسات دولة الاحتلال؛ منها ما هو سياسي وذو أبعاد محلية وقارية ودولية على حد سواء، وتأتي معها أسباب قانونية ودواع إنسانية أيضا
وتأني
إسبانيا وأيرلندا في موقفهما الواضح ضد إجراءات دولة الاحتلال لتمثلا رأس حربة في
مقدمة المواقف الصريحة للسعي لوقف العدوان، فقد وصل سوء علاقتهما مع دولة الاحتلال
لحد سحب للسفراء واتخاذ إجراءات عقابية، وسبق ذلك الاعتراف بدولة فلسطين والتحرك
بكل اتجاه بالتصعيد. وأبرز الخطوات مطالبة الرئيس الأيرلندي مايكل هيغينز باستبعاد
إسرائيل من منظمة الأمم المتحدة. ويأتي معهما موقفا بلجيكا وسلوفينيا في الاعتراف،
ثم جاء ودفعة واحدة الشهر الماضي (أيلول/ سبتمبر) من عدة دول؛ في سلسلة الاعترافات
من قبل عدة دول أوروبية وتتقدمها بشكل نوعي وتاريخي فرنسا والمملكة المتحدة.
وفي اتجاه
آخر؛ أحداث مهمة في هولندا، منها استقالة 8 وزراء من الحكومة الهولندية خلال شهر
تموز/ يوليو الماضي على خلفية موقف الحكومة من القضية الفلسطينية ودعم دولة الاحتلال.
وقبل ذلك في شهر أيار/ مايو تغير موقف هولندا نحو تقديم طلب لدى الاتحاد الأوروبي
بإعادة النظر في اتفاقية الشراكة الأوروبية الاستراتيجية والإصرار على ذلك، مما
شكّل تصدّعا حقيقيا داخل أروقة دول الاتحاد الأوروبي.
ولعل
عوامل عديدة ساهمت وبدرجات في أن تنحى الدول الأوروبية نحو الوقوف في سياسيات
معارضة لممارسات دولة الاحتلال؛ منها ما هو سياسي وذو أبعاد محلية وقارية ودولية
على حد سواء، وتأتي معها أسباب قانونية ودواع إنسانية أيضا.
بشاعة
جرائم الإبادة الجماعية وغطرسة المحتل
لقد ساهم
الإعلام المفتوح ونقل الأحداث والجرائم التي ترتكب في غزة بأن تكون المذابح غير
مسبوقة في التاريخ في دقة توثيقها وسرعة وصولها تفاصيل أحداثها (دون رتوش) مما
جعلها تتصدر مشاهد الإعلام العالمي، وأدى طول أمد الحرب إلى أن تفرض السياسات
العدوانية نفسها على كل الصعد في
أوروبا، سواء السياسية أو الشعبية أو القانونية
أو الإعلامية، مما غذى التظاهرات الشعبية وانعكس ذلك على السياسيين في التأثير
عليهم وتبدل مواقفهم. وصاحب ذلك سياسة استعلاء وغطرسة وعدم اكتراث من قبل سياسيي
دولة الاحتلال، واستخفافهم بكل المواقف للدول بل والمنظمات الدولية.
الضغط
الشعبي الجماهيري
شهدت
القارة الأوروبية خلال سنتي العدوان على غزة مظاهرات عارمة ومستمرة وممتدة ومنوعة،
من حيث المشاركين بخلفياتهم الدينية والسياسية والعرقية وبفئاتهم العمرية وبمجال
تخصصاتهم المهنية المختلفة. وتشير الإحصاءات التي صدرت قبل أيام عن المركز الأوروبي
الفلسطيني للإعلام إلى أن عدد المظاهرات والفعاليات قد فاق 45 ألف مظاهرة، انطلقت
في ما يقرب من 800 مدينة امتدت على 25 دولة أوروبية غربية طوال السنتين الماضيتين
من عدوان التطهير العرقي، وإذا ما أضفنا أرقام بريطانيا (غير المتضمنة في الإحصاء)
فسيفوق العدد الخمسين ألفا مظاهرة، في أرقام ستحفر في التاريخ الأوروبي في تفاعل
مع قضية خارج الحدود القارية.
إنّ استعراضا
سريعا لصور الجموع الهادرة التي اخترقت شوارع وسط العواصم الغربية في برلين في
السابع والعشرين من الشهر الماضي يظهر أنها فاقت المائة ألف مشارك، وكذا الحال
روما في الرابع من الشهر الجاري، والتقدير ربع مليون متظاهر. وفي نفس اليوم مدريد
وتقدير المنظمين نصف مليون، واليوم التالي في العاصمة الهولندية في مسيرة الخط
الأحمر (وهي الثالثة من نوعها) والأعداد تجاوزت الربع مليون.
وهذا مما
يمكن أن يشكّل أرقاما تفاعلية للسياسيين الأوروبيين الداعمين لدولة الاحتلال،
ويدفع إلى إزاحات حقيقة في المواقف السياسية استجابة لهذه الضغوط التي كان لها
الأثر في الأصوات الانتخابية، وكانت حاضرة ولافتة في الأوراق في صناديق الاقتراع
وانعكست بالفعل في نتائج الانتخابات وإن بدرجات، كما الحال في بريطانيا بفوز حزب
العمال وفرنسا مع تقدم اليسار وخاصة حزب فرنسا الأبية، وحضور تاريخي لقائمة "حزب
غزة" في الانتخابات النمساوية، والتي استطاعت أن تحصل على التزكيات المطلوبة
لتصبح قائمة وطنية وتحصد 21 ألف صوتا لوحدها. وأيضا في الشمال الأوروبي (الدنمارك
والسويد)، بحضور الأقليات الفلسطينية والعربية والمسلمة وتكتلات اليسار التي أفرزت
نتائج ملحوظة في البرلمان الأوروبي والمحلية على حد سواء في كلتا الدولتين.
حسابات
سياسية محلية وحكومات أقليّة.
ومما
يعزّز النفاذية السياسيّة للحضور الجماهيري
التضامني الواضح مع فلسطين وضد العدوان
على غزة، تلك الحسابات المحلية في الأرقام الانتخابية في العديد من الدول، وأوضحها
فرنسا التي سقطت حكومتها قبل أيام قليلة، حيث تجاوز الرئيس ماكرون التكتل الفائز
في الانتخابات بأعلى الأصوات في انتخابات تموز/ يوليو من العام الماضي، وهو اليسار
وتحديدا حزب فرنسا الأبيّة، ليعين بالمخالفة لذلك حكومة قريبة من الرئيس. فتكون
كتلة المعارضة الأكبر عددا في البرلمان مؤيدة بقوة للقضية بل وناشطة في الميدان
بشخص رئيسها جان لوك ميلونشون، وهذا يشكل عدم توازن في صناعة القرار السياسي على
صعيد الدولة ويرخي بظلاله على المواقف؛ استفادت القضية الفلسطينية من هذا، ونعزو
أحد أسباب الاعتراف بالدولة الفلسطينية لهذا المشهد.
وتتشابه
التقاطعات السياسية المحلية في بريطانيا ما حدث مع جارتها عبر القنال الإنجليزي،
فقد برز الحضور الجماهيري اللافت في شوارع لندن وبقية المدن البريطانية ودون توقف،
بل بتنوع في مجالات عدة؛ منها حملات المقاطعة وتجمعات محاربة تصدير السلاح التي
دخلت مساحات اعتبرتها الحكومة اختراقا للأمن القومي، كما حدث مع منظمة "بالستاين
أكشن" التي أُخرجت عن القانون في البرلمان، والعلّة في الموضوع حضور التضامن
مع القضية وبدون سقف ولا حسابات. وكذا الحال فوز العديد من المستقلين في الانتخابات
على خلفية استنكار المذابح ودعم القضية، وتزداد أهمية فوزهم كونهم من الأقليّات
الإثنية وبعضهم أعضاء مستقيلون من حزب العمال استنكارا لمواقفه من القضية
الفلسطينية. وأيضا نستطيع أن نضع ذلك كأحد أسباب التبدل في مواقف حزب العمال
البريطاني في الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وليس هناك
مجال لذكر كل الدول الأوروبية التي ينسحب عليها المثال الفرنسي والبريطاني بدرجات،
ونذكر ألمانيا استثناءً لنفاذيتها وقوتها في القرار الأوروبي، فالتقاطعات المحلية
السياسية حاضرة في تبدل الموقف الألماني ولو بدرجات أقل كثيرا من الموقفين
البريطاني والفرنسي. والأحداث داخل أروقة السياسة في برلين هي بشكل مخالف للمثالين
السابقين، فهي هنا بين الحزب الديموقراطي المسيحي من جهة واليمين المتطرف الصاعد
من جهة أخرى، وحضور القضية الفلسطينية وأصوات الأقليّات بينهما أيضا في الحسابات
الانتخابية، خاصة مع مواقف اليسار الداعمة للاحتلال؛ إبّان فترة حكمه طوال سنتي
الإبادة.
ولا نقلل
من تأثر الدول ببعضها وخاصة مع وجود قرارات اتحادية جماعية تحضر فيها آراء
الحكومات القُطرية وكذلك البرلمانيين المنتخبين من الشعوب الأوروبية، وهذا الوضع
الهيكلي السياسي يعطي صوتا عاليا للداعمين للقضة الفلسطينية، وهنا نعود لأثر
الموقف الإسباني والأيرلندي في تنامي تشكيل رأي عام أوروبي على المستوى السياسي،
إلى جانب الأسباب الأخرى.
المواقف
الأمريكية على الساحة الدولية وامتداداتها الأوروبية
لقد شكّل
العهد الجديد للرئيس ترامب، غريب الأطوار وغير المتوقع في قراراته وطريقة تنفيذها
شكلا ومضمونا، هاجسا وأرقا حقيقيا للسياسيين الأوروبيين مما اعتبروه مساسا بالأمن
القومي الأوروبي، وهنا نقصد موقف البيت الأبيض من الحرب الروسية الأوكرانية، وكيف
ذهب الرئيس ترامب منفردا للاتفاق مع الرئيس الروسي بوتين، وتجاوز الأوروبيين فيما بات
يرونه شأنهم الداخلي. وهذا له انعكاسات استراتيجية فارقة على القارة مجتمعة وكذا
الحال بشكل قُطري. وفي مثالين آخرين؛ فرض الرسوم الجمركية العالية على البضائع الأوروبية
من قبل واشنطن، والمطالبة بجزيرة غرين لاند التي تتبع السيادة الدنماركية.
كل هذا
يتطلب في التوازنات السياسية الدولية أن تقف أوروبا مواقف تجعل الولايات المتحدة
تحسب حسابا وأنها ممكن أن تدفع أثمانا لمواقفها، فكان أن استفادت القضية
الفلسطينية من مواقف بعض الدول الأوروبية في أن تقف في وجه دولة الاحتلال المدعومة
كليّا من واشنطن.
المعضلة
الأوروبية باحتمال انهيار حل الدولتين
لقد شكّل
حل الدولتين مشروعا استراتيجيا دوليا (بما فيه وبشكل متقدم الموقف الأوروبي) لإنهاء
الصراع في فلسطين بل والشرق الأوسط، وتمظهر ذلك في اتفاق أوسلو عام 1993 وكان
الأصل أن تقوم الدولة الفلسطينية عام 1999، وجاءت حكومة اليمين الإسرائيلي لتجنح
بشكل سافر نحو التنكر لكل ذلك بالعمل على ضم الضفة الغربية واستبعاد قيام الدولة
الفلسطينية، واعتبار كل من يتعامل مع ذلك دوليا يمس بالأمن القومي الإسرائيلي ويوصف
باللاساميّة، كائنا من كان. وجاء الموقف الأمريكي لينسجم مع ذلك الموقف كليّا
ويدعمه بلا حدود، ويعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل وينقل السفارة الأمريكية
بالفعل من تل أبيب للقدس.
واعتبر الأوروبيون
ذلك إسقاطا لمشروع حل الصراع ودخولا في انسداد الأفق، وهم الذين طالما دفعوا قدرا
مهما من الفاتورة المالية الاستحقاقية لهذا الحل.
يتطلب الأمر من الطرف الفلسطيني الرسمي والشعبي وحركة التضامن العالمية، سواء من المتضامنين العرب والمسلمين أو أحرار العالم، العمل الدؤوب على وضع خطط عمل ومشاريع لأن يكون الدعم الرسمي والشعبي الأوروبي في حالة استدامة ويتنامى باطراد
ولهذا
السبب وللعوامل الأخرى، تقدمت عدة دول أخرى للوقوف في وجه السياسية الأمريكية
وامتدادها الإسرائيلي لتعترف بالدولة الفلسطينية..
السوابق
القانونية في ملاحقة دولة الاحتلال
أدت جرأة
جنوب أفريقيا تحديدا بين دول العالم في رفع قضية جنائية في محكمة العدل الدولية ضد
دولة الاحتلال في لاهاي، واتهامها بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي. وانعقدت
المحكمة بالفعل في شهر كانون الثاني/ يناير 2024، وصدر رأي يضع دولة الاحتلال في
زاوية صعبة، ويؤسس لحالة قانونية بملاحقة أطراف ثالثة تدعم دولة الاحتلال، ما دفع
نيكارغوا لملاحقة ألمانيا في ذات السياق وانعقدت المحكمة خلال شهر نيسان/ أبريل من
السنة نفسها. وانسحابا على ذلك بدأت سلسلة ملاحقات للمسؤولين الإسرائيليين وجنود
دولة الاحتلال؛ الذين برزت أدلة على ارتكابهم جرائم حرب. وكانت ذروة الملاحقات
صدور المذكرة العدلية بملاحقة نتنياهو ووزير الدفاع السابق غالنت بتهمة ارتكاب جرائم
حرب. وهذا جعل كل دول العالم وسياسيّها بين حال أن يكونوا ملاحقين قانونيا إذا كانوا
متعاونين مع دولة الاحتلال، أو أن تكون أراضيهم ساحة لملاحقة جنود وساسة دولة الاحتلال
إذا ما زاروها. وهذا حدث بالفعل مع العشرات من جنود الاحتلال، من قبل مؤسسة "هند
رجب" البلجيكية التي توثق ممارسات جنود الاحتلال الإجرامية في غزة، وتتبع
سلوكهم كأدلة على وسائل التواصل الاجتماعي ومن ثم تنقلها في العالم. ونعتبر أن
البعد القانوني كان من الآثار المهمة لتبدل سياسية بعض الدول الأوروبية نحو دعم
القضية الفلسطينية.
نختم بأنه
في السياسة ليس هناك ثبات في المواقف، واحتمال التأثير عليها كبير، خاصة مع وجود
ماكينة الاحتلال الفاعلة في كافة المجالات. وعليه، فيتطلب الأمر من الطرف
الفلسطيني الرسمي والشعبي وحركة التضامن العالمية، سواء من المتضامنين العرب
والمسلمين أو أحرار العالم، العمل الدؤوب على وضع خطط عمل ومشاريع لأن يكون الدعم
الرسمي والشعبي الأوروبي في حالة استدامة ويتنامى باطراد.
ومما
يتطلبه ذلك ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني، بما في ذلك إعادة هيكلة كاملة تتضمن
إشراك كل قطاعات الشعب في الداخل والخارج في صناعة القرار، وهذا يأتي بإجراء انتخابات
تخرج قيادة فلسطينية تمثل الشعب الفلسطيني بشكل حقيقي، وتتعامل مع كل استحقاقات
المرحلة خاصة الوضع في الداخل وغزة ما بعد وقف العدوان، وأيضا استثمار اجواء
التضامن العالمي وفي مقدمتها أوروبا.
(رئيس
المجلس الأوروبي الفلسطيني للعلاقات السياسية)