قضايا وآراء

غزة الجديدة.. بين وهم السلام وخطة الإحلال السياسي!!

"تقوم الفكرة الأساسية على إنشاء منطقة جديدة لإعادة الإعمار تُدار دوليا"- جيتي
تعيش غزة اليوم مرحلة غامضة في تاريخها السياسي والجغرافي، فبعد عامين من العدوان والدمار، لم تتوقف المؤامرة عند حدود الحرب، بل انتقلت إلى طور "إدارة ما بعد الحرب" تحت عنوانٍ لامع هو "إعادة الإعمار والسلام"، بينما تُخفي وراءها خطة هندسة جديدة للقطاع تُعرف في الأوساط السياسية باسم "غزة الجديدة".

تشير الوثائق والتقارير الغربية إلى وجود مشروع واسع لإعادة صياغة الواقع الإداري والاقتصادي لغزة، يقوده التحالف الأمريكي- الإسرائيلي بدعمٍ من بعض الدول العربية. تقوم الفكرة الأساسية على إنشاء منطقة جديدة لإعادة الإعمار تُدار دوليا أو عبر هيئة إشرافية تضم شركات كبرى، تحت ما يُعرف بمبادرة (GREAT Trust- Gaza Reconstruction, Economic Acceleration and Transformation).

وتُطرح الفكرة باعتبارها بوابة "السلام الاقتصادي"، لكنها في الواقع تسعى إلى تحويل غزة من كيان مقاوم إلى كيان استثماري خاضع للرقابة، مع بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية على المعابر والمنافذ.

تُطرح الفكرة باعتبارها بوابة "السلام الاقتصادي"، لكنها في الواقع تسعى إلى تحويل غزة من كيان مقاوم إلى كيان استثماري خاضع للرقابة، مع بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية على المعابر والمنافذ

التقارير المسربة (من صحف مثل الغارديان و"972Mag ") تتحدث عن مخطط "غزة ريفييرا"، وهو تصور لبناء مدن تكنولوجية ومناطق سياحية على أنقاض الأحياء المدمّرة، تُدار بشراكات دولية، مع إعادة توزيع ديموغرافي للسكان على نحوٍ يسهّل المراقبة والسيطرة. هذه هي ملامح الخطة المعلَنة والمضمَرة.

دور الولايات المتحدة والدول الثمانية

الولايات المتحدة تمسك بخيوط المشروع سياسيا واقتصاديا، وتروّج له باعتباره خطوة ضرورية "لضمان الأمن الدائم في المنطقة".

أما الدول الثماني المشاركة أو المراقِبة، ويُرجَّح أن تضم مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، مع إشراف أوروبي، فلكلٍّ منها حسابات مختلفة:

- مصر تريد ضبط حدودها ومنع التهجير إلى سيناء.

- الأردن والسعودية تسعيان إلى دور إقليمي يحفظ التوازن ويمنع تمدد النفوذ الإيراني.

- الإمارات تطرح نفسها بوصفها الشريك الاقتصادي لإعادة الإعمار.

- تركيا وقطر ترفضان الخطة ما لم تحفظ السيادة الفلسطينية وتعيد إعمار غزة دون شروط سياسية.

لكن في الواقع، لا توجد خطة عربية موحدة، بينما تتصرف واشنطن وتل أبيب وفق منطق "فرض الأمر الواقع" عبر مشاريع اقتصادية تُغلَّف بعبارات إنسانية.

لو حررنا القراءة السياسية الاستراتيجية يمكن أن نؤكد أن إسرائيل تسعى إلى نقل الصراع من ساحة المقاومة إلى ساحة الإعمار، أي من معركة التحرير إلى معركة التمويل والإدارة. فبدلا من إنهاء الاحتلال، تريد تحويل القطاع إلى نموذجٍ شبيه بالضفة الغربية: إدارة مدنية محلية تحت رقابة أمنية إسرائيلية مباشرة أو غير مباشرة.

إنها محاولة لخلق واقعٍ جديد يُبقي غزة داخل "القفص الاقتصادي"، بحيث يُكافأ الهدوء بالمساعدات ويُعاقَب الصمود بالحرمان. بهذا، يصبح "السلام" أداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وإفراغ القضية من مضمونها المقاوم، فيتحول شعار "غزة الجديدة" إلى نسخة من مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تحقيقه منذ سنوات عبر البوابة الإنسانية والاقتصادية.

القراءة الشرعية والقيمية

من منظورٍ شرعي، لا يجوز أن تُبنى خطط السلام على التنازل عن حقٍ ثابت أو تفريطٍ في أرضٍ مغتصبة.

قال تعالى: "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ" (النساء: 104).

"غزة الجديدة" ليست مدينة تُبنى، بل معركة وعي تُخاض، فإما أن تكون بوابة لإحياء المقاومة، أو ممرّا لتصفيتها

فالإعمار واجب، لكن بشرط ألا يتحول إلى غطاء للتطبيع أو التنازل عن المقاومة. ومن مقاصد الشريعة أن يكون الإعمار في الأرض تحقيقا للكرامة والسيادة، لا أداة للهيمنة والفساد. كما أن أي ترتيبات تُقصي القوى الفلسطينية المقاومة أو تضعها تحت وصاية دولية تُعد من صور الاستسلام الممنوع شرعا وسياسيا.

الطريق البديل

لا يمكن إنقاذ غزة بخطط استثمارية تُفرض من الخارج، بل برؤية وطنية-إسلامية تحفظ المقاومة وتبني الدولة.

المطلوب:

1- تحالف عربي- إسلامي حقيقي لإعادة إعمار غزة بشروط فلسطينية لا صهيونية.

2- إشراف أممي نزيه يمنع التهجير ويضمن محاسبة الاحتلال على جرائمه.

3- استراتيجية وعي شعبية تربط الإعمار بالتحرير، لا بالاستسلام.

إن "غزة الجديدة" ليست مدينة تُبنى، بل معركة وعي تُخاض، فإما أن تكون بوابة لإحياء المقاومة، أو ممرّا لتصفيتها. ولذلك، فإن كل حديث عن السلام" يجب أن يُقرأ بعينٍ شرعيةٍ تُفرّق بين السِّلم المشروع والاستسلام الممنوع، وبين الإعمار الذي يعيد الحياة، والإعمار الذي يسرق الذاكرة والهوية.