قضايا وآراء

الاقتحامات المتزايدة للأقصى.. ماذا وراء تصاعد الأعداد هذه الأيام؟

"تقسيم الأقصى.. تمهيدا لبناء الهيكل الثالث"- الأناضول
لم تعد اقتحامات المسجد الأقصى حدثا عابرا أو طقسا موسميا مرتبطا بالأعياد اليهودية؛ بل تحوّلت في الأشهر الأخيرة إلى مشهد يوميّ مقصود ومدروس، تتزايد فيه الأعداد، ويشارك فيه وزراء ومسؤولون كبار من حكومة الاحتلال، في تحدٍّ سافرٍ للوضع القائم والوصاية الإسلامية، واستفزاز مباشر لمشاعر أكثر من مليار ونصف مسلم حول العالم.

فما دلالات هذا التصعيد؟ وما الأهداف الخفية وراء هذا الزحف المتزايد نحو الأقصى في ظلّ الحرب المستمرة على غزة؟

أولا: تصاعد الأعداد.. سياسة فرض الأمر الواقع.

تشير تقارير دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس إلى أن أكثر من 1300 مستوطن اقتحموا المسجد الأقصى صباح يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، في مجموعات متتابعة وتحت حماية مشدّدة من شرطة الاحتلال الإسرائيلي.

زيادة الأعداد ليست عفوية، بل جزء من سياسة مدروسة لفرض وقائع تدريجية، تُحوِّل الأقصى من مكان إسلامي خالص إلى منطقة "مشتركة" رمزيا تمهيدا لتقسيمه زمانيا ومكانيا، كما جرى سابقا في الحرم الإبراهيمي بالخليل

هذه الأعداد تُعدّ الأعلى منذ شهور، وجاءت متزامنة مع عيد العُرش اليهودي (سوكوت)، وهي مناسبة تُستخدم سنويا ذريعة لتكثيف الاقتحامات وإدخال المستوطنين إلى ساحات الحرم الشريف.

لكن الجديد هذا العام أن الاقتحامات تحوّلت إلى تظاهرة سياسية- عقائدية، قادها وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير بنفسه، في رسالة واضحة: "نحن أصحاب السيادة هنا، وسنصلّي في جبل الهيكل كما نشاء".

إن زيادة الأعداد ليست عفوية، بل جزء من سياسة مدروسة لفرض وقائع تدريجية، تُحوِّل الأقصى من مكان إسلامي خالص إلى منطقة "مشتركة" رمزيا تمهيدا لتقسيمه زمانيا ومكانيا، كما جرى سابقا في الحرم الإبراهيمي بالخليل.

ثانيا: البعد الديني- العقائدي.. مشروع "الهيكل الثالث"

تسعى جماعات "أمناء جبل الهيكل" و"طلاب الهيكل" ونساء من أجل المعبد" منذ سنوات إلى إعادة بناء "الهيكل الثالث" على أنقاض المسجد الأقصى.

هذه الجماعات، التي تتلقى تمويلا مباشرا من جهات استيطانية وبدعم سياسي من أحزاب اليمين، تُكثّف نشاطها في كل موسم ديني عبر اقتحامات جماعية وحملات إعلامية لإقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن "الصلاة في جبل الهيكل حقّ ديني لا يمكن منعه".

ومع كل زيادة في عدد المقتحمين، يجري اختبار حدود الرفض الفلسطيني والعربي والدولي. فإذا مرّ الحدث بلا ردّ قوي، تُرفع الأعداد أكثر، ويُسمح بطقوس جديدة: نفخ البوق، السجود، قراءة التوراة، ثم "القرابين الحيوانية".

بذلك تتحوّل هذه الزيارات إلى تدرّج منهجي نحو تهويد الحرم، ينسجم مع الرواية الصهيونية التاريخية التي تزعم أن الأقصى مقام فوق "هيكل سليمان".

ثالثا: التوقيت السياسي.. تزامن مع حرب غزة وضغوط الميدان

تأتي هذه الاقتحامات في لحظة تراجع صورة الاحتلال عالميا بعد مجازر غزة، وانكشاف فشل جيشه في تحقيق أهدافه رغم مرور عامين على عملية "طوفان الأقصى".

تحاول حكومة نتنياهو- بن غفير- سموتريتش تصدير الأزمة إلى القدس لإعادة حشد اليمين الصهيوني المنقسم، عبر قضية تعبّر عن "السيادة اليهودية" على "جبل الهيكل"، وكأنها معركة مقدسة بديلة عن حرب غزة التي فقدت شرعيتها.

كما تسعى لخلق حالة توتر جديدة تُربك المفاوضات التي تجري بوساطة مصرية- قطرية حول وقف إطلاق النار في القطاع، لإيصال رسالة إلى الوسطاء العرب أن "القدس ليست جزءا من التنازلات السياسية".

رابعا: الأبعاد الإقليمية والدولية

1- رسالة إلى الأردن: الاحتلال يريد تقليص دور الوصاية الهاشمية على المقدسات، وإجبار عمّان على القبول بدور رمزي فقط، في ظلّ تصاعد العلاقات الإسرائيلية-الخليجية.

2- استفزاز للعالم الإسلامي: الاحتلال يدرك أن معظم الأنظمة العربية منشغلة بأزماتها الداخلية، وأن ردود الفعل الرسمية لا تتعدّى بيانات الإدانة، لذا يُختبر "حدود الصمت الإسلامي" لقياس استعداد الأمة لأي مواجهة قادمة.

3- كسر العزلة الدولية: إسرائيل تحاول تحويل التركيز من جرائمها في غزة إلى "معركة دينية" حول الأقصى، لتستعيد دعم اليمين المسيحي المتصهين في أمريكا وأوروبا، تحت شعار "حرية العبادة في جبل الهيكل".

خامسا: الدلالات الاستراتيجية العميقة

- تهيئة لمرحلة التقسيم المكاني: زيادة الأعداد وتكرار الطقوس الدينية تمهّد لتكريس فكرة "المكان المشترك" بين المسلمين واليهود داخل الحرم الشريف.

- اختبار ردّ الفعل الفلسطيني: كل اقتحام يقيس حدود الانفجار الشعبي في القدس والضفة وغزة.

- إعادة بناء الوعي الصهيوني: اليمين المتطرف يربّي أجيالا من المستوطنين على أن "تحرير جبل الهيكل" هو ذروة الخلاص الديني.

- إشعال فتيل ديني عالمي: الاحتلال يراهن على أن أي ردّ فلسطيني عنيف سيُقدَّم للعالم كـ"حرب دينية"، لتبرير مزيد من القمع والتهجير.

سادسا: الموقف الفلسطيني والعربي

رغم الإدانات المتكررة من الأوقاف الإسلامية، والبيانات الصادرة عن هيئة كبار العلماء والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، إلا أن الردّ ما زال سياسيا محدودا.
تزايد أعداد المقتحمين في هذه الأيام ليس صدفة، بل هو نتيجة لتراكم صمت طويل وتراجع في الموقف العربي والإسلامي، واستغلال إسرائيلي للانشغال العالمي بالحروب والأزمات

القدس تحتاج اليوم إلى تحرك استراتيجي موحّد يتجاوز الشجب، عبر:

- دعم صمود المقدسيين اقتصاديا وقانونيا.

- تفعيل الدبلوماسية الشعبية في البرلمانات والمجالس الدولية.

- إطلاق حملات إعلامية توثّق الاقتحامات اليومية بالصوت والصورة.

- تشكيل "مرصد عالمي للأقصى" يتتبع الاعتداءات ويوثّقها كمقدّمة لإجراءات قانونية في المحاكم الدولية.

ختاما: إن تزايد أعداد المقتحمين في هذه الأيام ليس صدفة، بل هو نتيجة لتراكم صمت طويل وتراجع في الموقف العربي والإسلامي، واستغلال إسرائيلي للانشغال العالمي بالحروب والأزمات.

الاحتلال يختبر الآن حدود الأمة، ويمهّد لمرحلة أخطر عنوانها: "تقسيم الأقصى.. تمهيدا لبناء الهيكل الثالث".

لكن التاريخ يثبت أن القدس لا تُسلَّم بالصمت، ولا تُحافَظ عليها بالبيانات، بل بتعبئة الوعي والقدرة، فالأقصى ليس رمزا دينيا فحسب، بل بوابة الكرامة والسيادة والهوية للأمة كلها.

المراجع:

- وكالة الأناضول، 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 – تقرير حول اقتحام 1300 مستوطن للأقصى.

- قدس برس، 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 – بيان وزارة الأوقاف حول الانتهاكات.

- قناة العربية، 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 – تغطية لاقتحام بن غفير للمسجد الأقصى.

- وكالة صفا ووكالة معا – أرشيف الاعتداءات على الأقصى 2023–2025.

- دراسات مؤسسة القدس الدولية حول تهويد المدينة، إصدارات 2022–2024