قضايا وآراء

حداة العيس إلى أرض الإسراء

من المفارقات أن ترى الصهاينة يقتحمون باحات المسجد الأقصى وينبطحون على عتبات هيكلهم المزعوم ويؤدون الصلوات التلمودية على أسواره غير مبالين بالشرق وروحانيته ولا بالغرب ومسيحيته.. الأناضول
الوعي الحقيقي يحتاج منا إلى تفعيل المنظور الإلهي لحوادث التاريخ الإنساني وتوقع مآلتها وهي تتقلب بين الظهور والانحسار، وإلا كيف نفهم أن يتجافى القادة السياسيون عن مرجعيتهم الدينية في معالجة القضايا الحيوية للأمة وهم في موقع الاستخلاف للقائد الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؟ في حين لا يستنكف الصهاينة وداعموهم الإنجيليون في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة والغرب المسيحي والعلماني عامة عن المباهاة بما يمليه عليهم العهد القديم وأساطير التلمود عن واجب السيطرة على المشرق الإسلامي والمثابرة بحزم لقيام يهودا والسامرة؟!

إن القراءة المتنوعة للمكايد التي تحاك ضد مقدساتنا، والقبلتين منها خاصة، في الحاضر الذي نعيش، تري أن حملة أبرهة الحبشي في القرن السادس الميلادي على الكعبة الشريفة والهجمة الصليبية في القرون الوسطى على المشرق والسيطرة الصهيونية اليوم على بيت المقدس وأكنافها لم تكن سوى نماذج شريرة عما يترصد هاتين البقعتين الطاهرتين من مخاطر عبر التاريخ كله ماضيه وحاضره ومستقبله.

إن التحديات الجمة التي تترى مع الإمبريالية الصاعدة بقوة في هذا القرن، والتي لن تتوقف عن محاولات الاستحواذ على المنطقة مهما هزمت جحافلها مرارا ولن تتعظ من دروس التاريخ أبدا_ لباقية كذلك حتى يأتي وعد الله تعالى في آخر الزمان بالبشارة الخاتمة، كما أخبر صاحب الرسالة (عليه الصلاة والسلام) في الحديث الصحيح عن أبي هريرة (رضي الله عنه.

إن القراءة المتنوعة للمكايد التي تحاك ضد مقدساتنا، والقبلتين منها خاصة، في الحاضر الذي نعيش، تري أن حملة أبرهة الحبشي في القرن السادس الميلادي على الكعبة الشريفة والهجمة الصليبية في القرون الوسطى على المشرق والسيطرة الصهيونية اليوم على بيت المقدس وأكنافها لم تكن سوى نماذج شريرة عما يترصد هاتين البقعتين الطاهرتين من مخاطر عبر التاريخ كله ماضيه وحاضره ومستقبله.
وليس الصهاينة المعتدون بسذج كيما يأتوا إلينا طالبين النزال وجها لوجه، فحيل الاستعمار من الدقة حتى إنها لتكاد تعمى عنها الأبصار، ولا يدركها إلا ذوو البصائر والألباب. وليس الإحساس المرهف بالمؤامرة في هذا المضمار إلا كياسة لا غنى عنها لحماة الثغور في كل مجال يحتمل أن ينفذ منه الكيد العالمي، وأن القبلة الأولى والثانية ليستا إلا المقصد الأخير لتلكم المكايد والحملات؛ فليحذر المسلمون من ذلك أشد الحذر!

من المشين حقا على علماء الأمة والمتخصصين منهم في الشريعة الإسلامية خاصة، ألا يرقى وعيهم أعلى مما تعلموه من علوم وتبحروا فيه من معارف، فرب سابح ضل الطريق وهو لا يهتدي بهاد في بحر مظلم. وانكفاء هذا الصنف من العلماء عن السياسة أزرى بهم كثيرا، خاصة في هذا العصر الذي طغى فيه تأثير السياسة على الحياة كلها، كما طغت المادة، وأصبح التفكير في الاكتساب بالوظيفة لدى السلطان من أكثر ما يشغل بال العلماء والعياذ بالله تعالى! ولو أن هؤلاء الأفاضل عرفوا الحياة الاقتصادية حق المعرفة لاكتفوا بأقل السعي واغتنوا به عن الخدمة لدى الحكام، ولاشتروا بما غنموا لأنفسهم حرية التفكير والرأي والاجتهاد، ولكان لهم في المجتمع أعظم الأثر وأطيبه. بيد أن للأقدار عواقب لا تخطر على البال لمن سعى بدينه وعلمه في غير ما يرضي الله عز وجل.

لذلك ترى الحاكم يستند إلى صولجان العلماء في حكمه، ولربما ضرب بهم معارضيه ضرب السيوف، لأنهم رضوا بأن يكونوا أداة طيعة بيديه، وتمحلوا له الفتاوى التي تروق لحكمه، وهم أصحاب الحق في الولاية التي بين يديه لو كانوا يعلمون.

وليس واجب المنافحة عن القبلتين منوطا بعلماء الشريعة وحدهم حتى ولو كانوا في الطليعة، بل إن على العلماء المتخصصين في كل المجالات وللمثقفين في كل الميادين واجبات ضرورية أخر، ولعل أهل الإعلام من هؤلاء النخب، الذين بأيديهم منابر لا يخفى تأثيرها على أحد، لكن معظمهم مع الأسف لا يستند فكره- وهو يظن بأنه يؤدي ما عليه اتجاه فلسطين ـ للبعد الروحي، أي أن خطابه يأتي خاويا جدا، ولا أثر للبركة الإلهية في مردوده؛ لأنه لم يفعّل العقيدة الإسلامية والتاريخ الذي صاغته في دنيا الناس قرونا مديدة في تصوراته ومقالاته، ربما لأنه يجهل ذلك البعد أو ينكره أو يتنكر له، لجهل غفل عنه، أو لعلمانية رضع لبانها على صغر فاستحكمت فيه. والمسجد الأقصى قبلة الأمة الأولى ومسرى نبيها الكريم لا يليق به مثل هذا الخطاب بأي حال من الأحوال.

ومن المفارقات أن ترى الصهاينة يقتحمون باحات المسجد الأقصى وينبطحون على عتبات هيكلهم المزعوم ويؤدون الصلوات التلمودية على أسواره غير مبالين بالشرق وروحانيته ولا بالغرب ومسيحيته، وكأني بهم قد فرحوا بهذا الانفصام المشين بين الفكر والروح عند أعدائهم المسلمين.

إن إحياء الخطاب الديني كله، والمنبري منه خاصة، ضرورة شرعية كيما يتدفق إلى كلماته نور النبوة التي ورثها العلماء، فتحيا به النفوس لتنتشر في الأرض مؤدية التكاليف التي عليها بأحسن صورة حضارية يرتضيها المولى تبارك وتعالى لعباده. فما بعث محمد (عليه الصلاة والسلام) ليتحدث عن فضائل الأعمال وحدها، أو ليوصي الأمة بطاعة ولي الأمر كيما غرّب وشرّق، حتى بات الحديث على منابر الرسول الأكرم بمكة والمدينة لا يتلون إلا بهذا الخطاب حتى مجّه الناس لكثرة ما يلقى على مدار العام. أما واجبات الخطباء الحضارية، وتحريضهم على القتال ضد الصهاينة والمعتدين في بلاد المسلمين، فضرب من الخيال لا يؤمل ممن يعتلون تلك المنابر الطاهرة، علوا لا شك أنه لم يتم إلا برضا الملك والأمراء.

لا يتراءى لي حال هؤلاء الساسة، الذين يصوغون القرارات السيادية في بلداننا المسلمة إلا ميؤوسا منهم، قد يكون عند بعضهم بقية من خير، لكنه خير قليل وغير فاعل في إصلاح شؤون الأمة في ما يتعلق بالقبلتين وغيرهما؛ لذلك فإن تهاوي العروش التي رانت دهرا على صدر الشعوب المسلمة من خلال الثورات العربية مطلع العشرية الثانية من هذه الألفية كانت قدرا محضا، فما كانت عربة البوعزيزي بسيدي بوزيد التونسية لتصنع هذه التحولات الكبرى لولا أن الله سبحانه أراد من ورائها أمرا. وإن كنا قد لاحظنا بجلاء متغيرين عقب كل ما حدث؛ أما الأول فتمادي أغلب الحكام في غيهم، وعدم اعتبارهم بما وقع لقرنائهم من أخذ أليم شديد؛ وأما الثاني فبروز شعاع خافت من نور في بعض البقاع من العالم الإسلامي، له مسحة من إيمان حسن، وإن كانت لا تقوى على مناطحة الاستكبار العالمي بجرأة وعنفوان.

ويبقى عوام الأمة من البسطاء أكثر الناس صدحا بالحق أنى كانوا يعيشون، وأجرؤهم تضحية في سبيل الله إذا ما استبانت لهم المحجة بيضاء نقية، وحدا بهم الحادي الأمين إلى الحرية والرشاد. أسأل الله العلي القدير أن يعجل بالنصر والتمكين لهذه الأمة الخيرة.