قضايا وآراء

استراتيجيات المقاومة من يوم "التيت" إلى اليوم التالي للحرب

"أي فراغ سياسي أو أمني في غزة سيتحول حتما إلى فوضى منظمة"- الداخلية على فيسبوك
مع دخول الحرب على غزة مرحلة وقف إطلاق النار بموجب الاتفاقية الموقعة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، تتجه الأنظار إلى "اليوم التالي للحرب" وما يحمله من تحديات سياسية وأمنية وإنسانية.

لقد فرضت هذه الحرب واقعا جديدا لا يمكن تجاهله، وهذا الواقع الجديد لم يكن وليد الصدفة، بل يبدو أنه جزء من رؤية استراتيجية أعمق. فكما كشفت صحيفة "هآرتس" الصهيونية، بناء على شهادة ضباط مخابرات سابقين، فإن قائد حماس في غزة يحيى السنوار قضى سنوات في السجن يدرس بعناية حرب فيتنام، وتحديدا "هجوم يوم التيت" عام 1968. هذا الهجوم لم يكن يهدف لنصر عسكري حاسم، بل لكسر إرادة القوة العظمى عبر صدمة استراتيجية. ويبدو أن هذا النموذج التاريخي لم يكن مجرد قراءة عابرة للسنوار، بل كان بمثابة إلهام تاريخي لمشروع "التحرير". إنه الخيط الناظم الذي يربط رحلة المقاومة من يوم الإلهام، مرورا بيوم الطوفان، ووصولا إلى اليوم التالي للحرب.

الركائز الاستراتيجية والتحديات في اليوم التالي للحرب

تدرك حماس أن أي فراغ سياسي أو أمني في غزة سيتحول حتما إلى "فوضى منظمة". لذلك، فإن استراتيجيتها لمرحلة ما بعد الحرب يمكن أن تستند على ثلاث ركائز متكاملة، كل منها يتضمن آلياته الخاصة لمواجهة التحديات.

أول وأهم تحدٍ يواجه حماس هو ترسيخ "سردية النصر" في وعي الشعب الفلسطيني والعالمي ويتجاوز تحدي الرفض الدولي وأزمة الشرعية، فلا يمكن أن يُختزل النصر في مجرد الصمود العسكري، أو حتى خسائر جيش الاحتلال والتي كانت كبيرة فعلا، بل يجب أن يُترجم إلى مكاسب سياسية واستراتيجية ملموسة

الركيزة الأولى: بناء سردية النصر وتجاوز تحديات الشرعية

إن أول وأهم تحدٍ يواجه حماس هو ترسيخ "سردية النصر" في وعي الشعب الفلسطيني والعالمي ويتجاوز تحدي الرفض الدولي وأزمة الشرعية، فلا يمكن أن يُختزل النصر في مجرد الصمود العسكري، أو حتى خسائر جيش الاحتلال والتي كانت كبيرة فعلا، بل يجب أن يُترجم إلى مكاسب سياسية واستراتيجية ملموسة، وما يعزز هذه السردية أن حماس خرجت من الحرب ككيان متماسك، حافظت على هيكلها وقيادتها السياسية دون انشقاقات تنظيمية، مع المرونة الكافية لتعويض استشهاد القيادات؛ بانتقال سلس للقيادة والتحكم، في إنجاز يُعتبر بحد ذاته انتصارا استراتيجيا. لكن النصر الكامل في هذه الحرب لن يكون حسما بالضربة القاضية؛ بل هو حسم بالنقاط يسرّع من نهاية الاحتلال. وتحقيق ذلك يتم العمل عبر مسارات متوازية:

1. على المستوى السياسي: ربط أي اتفاق بأهداف واضحة (انسحاب كامل، رفع الحصار)، وفي نفس الوقت، دعم "واجهة مدنية مستقلة" من التكنوقراط كحل عملي يسمح بتدفق أموال الإعمار ويتجاوز الفيتو الدولي.

2. على المستوى الشعبي: تأطير الصمود كإنجاز وطني جامع، واستثمار التحول الجيلي في وعي جيل Z"" في الغرب، هذا الجيل الذي رأى في فلسطين آخر معارك التحرر من الاستعمار في العالم. إن كسب قلوب وعقول الجيل الذي سيقود الغرب مستقبلا ليس مجرد نصر إعلامي، بل هو استثمار استراتيجي طويل الأمد، قد يكون المكسب الأهم في هذه الحرب، لأنه يهدد مستقبل الدعم الغربي المطلق للاحتلال من قواعده.

3. على المستوى الإعلامي: إنشاء "خلية إعلام استراتيجي" تخاطب الغرب بلغته، واستخدام دعاية العدو ضده لإثبات هشاشة جيشه. والتركيز على أن النصر الذي تحقق عمليا بتحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال؛ لم يقتصر على إثبات عجز العدو، بل أصبح رمزا لكسر إرادة السجان، وتأكيدا عمليا على أن ما عجزت عنه مسارات التفاوض الطويلة لسلطة أوسلو حققته المقاومة بفرض معادلاتها، وقدم للعالم صورة النصر الإنسانية الأقوى: صورة الحرية التي تُنتزع انتزاعا، مما رسخ شرعية المقاومة كأداة فعالة حققت إنجازات ملموسة على طريق التحرير.

الركيزة الثانية: تفكيك الفوضى وإدارة التوازنات الإقليمية

تراهن دولة الاحتلال على أن الدمار الهائل الذي ألحقته بغزة سيؤدي إلى انهيار النظام المدني ونشوء "فوضى منظمة" تسيطر عليها جماعات مسلحة عميلة للشاباك وعصابات محلية تقتات على السلب والنهب. هذا السيناريو يخدم أهداف الاحتلال من خلال إظهار غزة ككيان فاشل وغير قابل للحكم، مما يبرر استمرار السيطرة الأمنية الصهيونية، ولذلك يجب تلافي هذا المصير من خلال فرض النظام وتجاوز تحدي الانقسام الفلسطيني وتضارب المصالح الإقليمية:

1. على المستوى الداخلي: التحرك بسرعة لتشكيل لجنة وطنية مدنية تملأ الفراغ الإداري، وتطوير نموذج أمني هجين يجمع بين الجهاز الرسمي والشبكات المحلية لضمان السيطرة على الأرض ومنع الفراغ.

2. على المستوى الفلسطيني: فرض الوحدة من الأسفل عبر مشاريع عملية، مثل "صندوق إعمار وطني مشترك" يبني الثقة بين الفصائل، أو البدء بـ"انتخابات بلدية ومهنية" لتجديد الشرعيات المحلية.

3. على المستوى الدولي: استغلال انقسامات الخصم الداخلية لضرب التيار الدولي الداعم له في الإدارة الأمريكية وأوروبا، وتكمن المناورة السياسية في استغلال الشرخ الوجودي العميق داخل الكيان الصهيوني بين تيار اليمين الديني الذي يؤطر الصراع كـ"حرب قيامة"، وتيار الوسط العلماني الذي يفكر بمنطق براغماتي، وتصميم كل خطوة لتصب الزيت على نار هذا الانقسام، مما يزيد من ضغط الشارع الصهيوني، ويُصدّر هذا الانقسام إلى داعمي الكيان في الغرب، فيشل قدرتهم على تشكيل موقف موحد.

بهذا، تحول المقاومة خصمها إلى أكبر عدو لنفسه، بينما تستمر في طمأنة المحور العربي المعتدل بقدرتها على ضبط الأمن وعدم الصدام مع السلطة الفلسطينية، واستثمار علاقتها بالوسطاء (مصر، قطر، تركيا) للحفاظ على دعمهم من خلال قنوات التفاوض، واستخدام أوراق الردع الإقليمية (مثل جبهة اليمن) كورقة ضغط استراتيجية عند الحاجة.

الركيزة الثالثة: تأميم الإعمار والحفاظ على السلاح

يمثل ملفا إعادة الإعمار وسلاح المقاومة، التحدي الأكبر والأكثر تعقيدا في مرحلة ما بعد الحرب. تهدف دولة الاحتلال إلى التحكم في سلاح المقاومة من ناحية، وعملية الإعمار من ناحية أخرى، واستخدام ذلك كأداة للضغط السياسي والابتزاز. لذلك، يجب على حماس أن تتبنى استراتيجية التسويف في ملف السلاح، والتأميم في ملف الإعمار، وذلك بوضع الملفين تحت إدارة فلسطينية بغطاء عربي إسلامي من خلال الاستراتيجيات التالية:

1. على المستوى الإداري والمالي: إنشاء "هيئة وطنية مستقلة للإعمار تعمل بشفافية كاملة عبر منصة إلكترونية، مع إطلاق "لجان أحياء" تطوعية لتسريع الاستجابة على الأرض.

2. على المستوى السياسي: التمسك بموقف موحد يرفض أي شروط سياسية تربط الإعمار بالتنازل عن السيادة، وتقديمه كحق إنساني وقانوني.

3. أمام شرط نزع السلاح: المعالجة الواقعية تكمن في إعادة تعريف العلاقة بين السلاح والدولة، عبر طرح "نموذج الدمج في حرس وطني" الذي "ينظم" السلاح بدلا من "نزعه"، أو التحول إلى "مقاومة صامتة" تستخدم السلاح كورقة ردع وتفاوض، حتى يحين الوقت المناسب لاستخدامه في جولة أخرى.

إن نجاح حماس في مواجهة تحديات "اليوم التالي" يعتمد على قدرتها على الانتقال من منطق الفصيل إلى منطق الدولة، ومن استراتيجية المقاومة العسكرية إلى استراتيجية التحرير الوطني الشامل. إنها لحظة تاريخية فارقة، تتطلب رؤية استراتيجية واضحة، وإرادة سياسية صلبة، وقدرة على بناء أوسع تحالف وطني ممكن.

الحرب غير المتكافئة وفرض معادلة جديدة
الواقع الجديد الذي تشكل على الأرض؛ هو ما سيحدد قواعد اللعبة القادمة، وهو واقع صُنع بعزيمة لا تخضع لمنطق القوة المجردة

في المحصلة النهائية، تتجاوز فعالية أي استراتيجية للمستقبل مجرد التخطيط العقلاني لتشمل صلابة العقيدة القتالية. لقد قدمت هذه الحرب نموذجا عمليا صارخا في "الحرب غير المتكافئة"، حيث دخلت قوة عظمى إقليمية، مدججة بأحدث ما في الترسانة الغربية من طائرات ودبابات وأنظمة استخبارات، وبدعم لوجستي وسياسي مطلق، بهدف معلن هو سحق قوة محلية محدودة الإمكانيات ومحاصرة من كل الجهات.

لكن النتائج على الأرض جاءت لتنسف كل التوقعات النظرية: الأهداف الاستراتيجية للغزو (تغيير ديموغرافيا الأرض، تفكيك بنية المقاومة، فرض واقع أمني جديد) لم يتحقق أي منها. بل على العكس، فُرضت على القوة الغازية صفقات تبادل مذلة، وبقيت هياكل السلطة المحلية قادرة على العمل، واحتفظت القوة المدافعة بقدراتها العسكرية الأساسية.

إن ما يثير الإعجاب ليس مجرد الصمود، بل هو القدرة على قلب الطاولة وفرض معادلات جديدة. لقد أثبتت هذه المواجهة أن عوامل مثل التخطيط الدقيق، والقدرة على التحمل، ووحدة الهدف، يمكن أن تعادل -بل وتزيد- التفوق المادي الساحق. قد تكون التكلفة البشرية والمادية باهظة، لكنها تُقاس في مقابل المبادئ (السيادة، الكرامة، التمسك بالحق)، وأي استنتاج بأن الصراع قد حُسم أو أن المقاومة قد انتهت؛ ليس إلا قراءة سطحية وقاصرة للأحداث.

وهنا، تكتمل الدائرة التي بدأت في تلك الزنزانة؛ إن الرحلة من يوم التيت مرورا بيوم الطوفان ووصولا إلى اليوم التالي للحرب لم تكن مجرد مغامرة؛ بل كانت مسارا استراتيجيا متكاملا، فالواقع الجديد الذي تشكل على الأرض؛ هو ما سيحدد قواعد اللعبة القادمة، وهو واقع صُنع بعزيمة لا تخضع لمنطق القوة المجردة؛ بل تخضع لرجال عقيدتهم هي تحرير أرضهم من الاحتلال، وتحرير شعبهم من الاستبداد، وتحرير أرواحهم من شهوات النفس والدنيا.