في مشهد
سوريالي يستحق التأمل، يتحول الفضاء الرقمي
المصري إلى ساحة لفرسان وهميين يمتطون
صهوة "السيسي" -ذلك الحصان القصير القامة- بينما يتوهمون أنهم يركضون
على أفراس عربية أصيلة. هؤلاء "الفرسان" الجدد، الذين يتبارزون في
معارك
مصطنعة، يمثلون ظاهرة تستحق الدراسة والتحليل، خاصة في سياقها التاريخي والاجتماعي
الأوسع.
يظهر
هؤلاء المؤثرون الرقميون وكأنهم فرسان من العصور الوسطى، يبحثون عن تنانين
ليقاتلوها، لكنهم لا يجدون سوى طواحين هواء. يمتطون "السيسي" -أو
يمتطيهم- ويتوهمون أنهم يخوضون معارك مصيرية. في الواقع، هم يرقصون في ساحة فارغة،
يلوحون بسيفهم الخشبي في الهواء، بينما المعارك الحقيقية تدور في
غزة، بفرسان
حقيقيين يدافعون بدمائهم عن القدس والعرب والمسلمين، بعيدا عن ساحات الصراع
الوهمية لفرسان السيسي.
استراتيجية
التشتيت: من الانقلاب إلى غزة
بدأ
انتشار هذه الظاهرة بعد الانقلاب العسكري الذي قام به السيسي، حيث شهد المجال
العام المصري تحولات جذرية. فمع تقلص مساحة الحوار السياسي الحقيقي، انتقل النقاش
إلى الفضاء الرقمي، لكنه تحول تدريجيا من حوارات جادة إلى معارك وهمية تخدم أجندات
خفية.
بدلا من مناقشة قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية والحريات، انشغل الرأي العام بمعارك حول قضايا ثانوية، وكأنما أُريد للمجتمع المصري أن يدور في حلقة مفرغة من الجدل العقيم. وقد أصبح انتشار هذه الاستراتيجية التشتيتية أكثر وضوحا وخطورة في سياق الحرب على غزة
لقد
استغلت جهات مختلفة هذه التحولات؛ فبدلا من مناقشة قضايا التنمية والعدالة
الاجتماعية والحريات، انشغل الرأي العام بمعارك حول قضايا ثانوية، وكأنما أُريد
للمجتمع المصري أن يدور في حلقة مفرغة من الجدل العقيم. وقد أصبح
انتشار هذه الاستراتيجية التشتيتية أكثر وضوحا وخطورة في سياق الحرب على غزة.
فبينما كانت آلة الدمار الصهيوني تطحن آلاف الأبرياء في القطاع، وتواجه مصر ضغوطا
هائلة لتمرير المشروع التطبيعي على أنقاض الشعب الفلسطيني، برزت هذه المعارك
الوهمية بكثافة غير مسبوقة. لم يكن تصاعدها مصادفة، بل كان أداة مُخطَّطة لصرف
أنظار المصريين والعرب عن جريمة الإبادة الجماعية، وعن الدور المريب لنظام السيسي
الذي يتخاذل عن مواجهة الاحتلال، بل ويساهم في حصار إخواننا في غزة.
لقد
حوّلوا مأساة الفلسطينيين إلى مجرد خلفية صامتة لمسرحياتهم الهزيلة، حيث ينشغل
"الفرسان" الوهميون بمعارك منقولة عن "التيك توك" وصراعات
المشاهير، بينما تُنقل أخبار الأطفال المشوّهين تحت الأنقاض إلى زاوية صغيرة في
وعي الجمهور، مغلَّفة بصمت مطبق أو بتغطية إعلامية مجتزأة ومشوّهة.
جذور
تاريخية لاستراتيجية التشتيت
تمتد جذور
صناعة المعارك الوهمية إلى عصور قديمة، حيث استخدمتها الإمبراطوريات والحكومات
كأداة لتحويل أنظار الجماهير عن المشاكل الحقيقية. أشهر مثال على ذلك معارك
المصارعين في الساحات الرومانية، هذه الاستراتيجية التي عُرفت بـ"خبز وسيرك"
(Panem et circenses).
وخلال
العصر الأموي، برزت ظاهرة "شعراء النقائض" -وأشهرهم جرير والفرزدق- التي
رعاها النظام الحاكم آنذاك. وكان الخلفاء والأمراء يشجعونهم على مهاجمة بعضهم
البعض بقصائد هجائية، ويُغدقون العطايا على الفائزين في هذه المعارك الشعرية
المصطنعة، حيث تشغل الجماهير بالجدال حول تفاصيل القصائد وموازين الشعر. وفي
الدولة العبيدية (الفاطمية)، انتشر شعراء الربابة وقصص أبو زيد الهلالي في السياق
ذاته وللهدف نفسه.
وفي
أوروبا خلال العصور الوسطى، استخدمت المَلكية والنبلاء المسرحيات والألعاب
والاحتفالات الباهظة التكاليف كوسيلة لشغل العامة عن مشاكلهم الحقيقية.
وفي
الدولة العثمانية، انتشر مسرح ظل الخيال (الكاراكوز) الذي كان يعرض شخصيات تتصارع
في مواقف ومعارك كوميدية، تنشغل بها العامة.
فبينما
كانت كل تلك الدول تواجه تحديات وجودية، كان الحكام يشجعون هذه العروض التي تقدم
نقدا وهميا يشبع شهوة البطولة في نفوس الدهماء، ولا يمس جوهر السلطة، بينما تمنع
أي نقد حقيقي للنظام.
بعض أشكال
المعارك الوهمية المعاصرة
من أبرز
هذه المعارك تلك الدائرة حول قضايا مثل "قائمة منقولات الزواج"، التي
تطرح وكأنها المعضلة الأساسية التي تواجه الشباب المصري، بينما الواقع يشير إلى أن
المشكلة الحقيقية هي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أوجدها نظام السيسي، وجعلت
الزواج نفسه حلما صعب المنال بالنسبة لملايين الشباب. وكأنما يُراد للشباب المصري
أن ينشغل بالجدال حول تفاصيل ثانوية، بينما الأسئلة الحقيقية حول المستقبل
والوظائف والمسكن تظل بلا إجابة.
ومنها
أيضا المعارك الوهمية ذات الطابع الديني الموسمي، مثل الجدال حول "حلاوة
المولد" أو الخلافات التاريخية بين المدارس الفكرية، أو "المايوه غير
الشرعي" -وكأن هناك مايوها شرعيا في الأساس!- ويتم إثارة هذه النزاعات
وتضخيمها، بينما تُهمَّش القضايا الجوهرية للخطاب الديني، ويُغيَّب الحديث عن
مقاومة الظلم والاستبداد.
ومنها
أيضا المعارك النسوية التافهة وما يقابلها من دعاة ما يُسمى بالذكورية، والتي تحول
النقاش حول قضايا المرأة من مطالب حقيقية؛ كرعاية الدولة للنساء المعيلات، وتقديم
الرعاية الطبية المجانية، وتوفير فرص التعليم المناسبة، وحمايتهن من التحرش في
المدارس والشارع والعمل، وعدم الاعتداء عليهن في أقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز؛
إلى جدالات حول قضايا تافهة ومظاهر شكلية.
ومنها
المعارك الرياضية المُسيَّسة؛ فالرياضة، التي يفترض أن تكون مجالا للترفيه
والتسلية، لم تسلم من هذه المعارك المفتعلة. فقد تحولت الميول الرياضية إلى هويات
سياسية، وأصبح الانتماء لنادٍ رياضي مؤشرا على الموقف السياسي، كما يتم استخدام
المنافسات الرياضية كوسيلة لشغل الجماهير عن المشاكل الحقيقية.
ولا تغيب
المعارك الفنية المفتعلة عن هذه الساحة التشتيتية. فبدلا من نقاش تدهور الصناعة
الفنية، تتفجر معارك وهمية بين نجوم الترفيه، أو فضائح مُسيَّسة حول الراقصات، أو
صراعات مُفتعلة بين الميليشيات الرقمية التي تعمل لصالح الأجندة المسيطرة. هذه
المعارك التافهة -التي تُقدَّم وكأنها "حراك ثقافي"- تستنزف طاقة
الجمهور العاطفية، وتحوله من متلقٍّ ناقد إلى مجرد مستهلك للخواء، مغلَّف بأوهام
التشويق والانحياز العاطفي.
تشويه
الوعي الجمعي
أخطر ما
في هذه الظاهرة هو تأثيرها على الوعي الجمعي للمصريين. فتحول النقاش من قضايا
مصيرية إلى معارك وهمية يؤدي إلى تشويه الوعي، وجعل الناس غير قادرين على تمييز
الأولويات، وغير قادرين على تحديد أعدائهم الحقيقين.
هذا
التشويه للوعي الجمعي ليس جديدا؛ فتاريخيا عملت الأنظمة الحاكمة على تشويه وعي
الشعوب، والتحول من تحريف التاريخ إلى تزييف الواقع. أما اليوم، فيتم ذلك عبر
المنصات الرقمية والمؤثرين المأجورين، حيث تُفرَّغ المفاهيم الكبرى مثل الحرية
والعدالة والكرامة من مضمونها الحقيقي، وتتحول إلى شعارات جوفاء ترفع في معارك
مزيفة. هذا الإفراغ يجعل الناس يفقدون الثقة في هذه المفاهيم، ويصبحون غير قادرين
على النضال من أجلها. وتصبح
هذه المعارك بديلا عن المشاركة السياسية الفاعلة، حيث يشعر الأفراد بأنهم أبطالا
وفرسانا، أدوا ما عليهم عبر التفاعل مع منشور، بدلا من العمل الحقيقي على الأرض.
هذا التعطيل للحراك الحقيقي يخدم مصالح النخب الحاكمة، ويحول دون أي تغيير جذري.
الآليات
الخفية لصناعة التشتيت ودور الأجهزة الأمنية
تعمل هذه
الآلة التشتيتية بعدة طرق، أبرزها صناعة "أبطال وهميين" من متصدرين
لوسائل التواصل الاجتماعي، يقدمون أنفسهم على أنهم مدافعون عن قضايا الشعب، بينما
هم في الحقيقة جزء من آلة التضليل.
هؤلاء
يختارون بعناية قضايا مثيرة للجدل ولكنها آمنة، لا تهدد أمنهم الشخصي ولا مصالح
النخب الحاكمة، بل تعمل على تشتيت الانتباه عن القضايا الحقيقية.
هذه المعارك الوهمية ليست بريئة، بل هي جزء من حرب كبيرة تُشَن على وعي الأمة، تهدف إلى تحويلها من أمة فاعلة في التاريخ إلى أمة منشغلة بالتوافه والهوامش
وقد كشفت
تقارير عديدة عن تورط الأجهزة الأمنية في صناعة هذه المعارك الوهمية وتضخيمها.
تعمل هذه الأجهزة عبر شبكة معقدة من الحسابات الوهمية (الذباب الإلكتروني)
والمؤثرين المأجورين، بهدف إشغال الرأي العام بقضايا هامشية، وصرف الأنظار عن
القضايا المصيرية.
تقوم هذه
الآلة التشتيتية بعدة أدوار:
1- صناعة
الأجندات الإعلامية الوهمية.
2- توجيه
النقاش العام بعيدا عن القضايا الحساسة.
3- محاربة
الأصوات المعارضة الحقيقية عبر تشويهها أو تضليلها.
4- صناعة "أبطال
وهميين" يقدمون بديلا مزيفا عن القيادات الحقيقية.
معركة
الوعي ومعركة المصير
في
الختام، فإن المعركة ضد هذه الظاهرة ليست معركة هامشية، بل هي معركة مصيرية ستحدد
مستقبل مصر والأمة العربية. إنها معركة بين قوى التحرر والتقدم وقوى التجهيل
والتضليل.
يعلّمنا
التاريخ أن الشعوب التي استطاعت الحفاظ على وعيها ووحدتها استطاعت التغلب على أعتى
الأنظمة وأقوى آلات التضليل. ومن ثورات التحرر الوطني إلى انتفاضات الربيع العربي،
تثبت التجربة أن إرادة الشعوب أقوى من أي آلة تضليل.
علينا أن
ندرك أن هذه المعارك الوهمية ليست بريئة، بل هي جزء من حرب كبيرة تُشَن على وعي
الأمة، تهدف إلى تحويلها من أمة فاعلة في التاريخ إلى أمة منشغلة بالتوافه
والهوامش.
النضال
الحقيقي اليوم هو نضال من أجل الوعي، من أجل القدرة على تمييز الحقيقي من المزيف،
الجوهري من الثانوي، الأصيل من المصطنع، فقط من خلال وعي حقيقي بحقيقة هذه الآليات
ومقاومة محاولات التشتيت، يمكن للأمة أن تحافظ على تركيزها على قضاياها المصيرية
وتواجه تحدياتها الحقيقية.
فإما أن
نستيقظ من سباتنا ونواجه هذه الآلة التشتيتية، وإما أن نظل ندور في حلقة مفرغة من
المعارك الوهمية، بينما أعداؤنا الحقيقيون يسرقون حاضرنا ومستقبلنا. الخيار بين
أيدينا، والتاريخ سيسجل لنا أو علينا.