في أعقاب التحولات الجيوسياسية العميقة التي
تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تبرز قضية نزع
سلاح حركة
حماس كمعضلة استراتيجية كبرى
تواجه صناع القرار في القاهرة. لا تمثل هذه القضية مجرد تحدٍ أمني عابر، بل تشكل
اختباراً حقيقياً للرؤية الاستراتيجية
المصرية في التعامل مع ملف غزة والمصالح
الوطنية العليا للدولة.
حماس كعمق دفاعي استراتيجي غير تقليدي
فعلى الرغم من التحالف السياسي بين
نظام السيسي ونتنياهو؛ تشكل القوة العسكرية لحماس في قطاع غزة ما يمكن وصفه
بـ"العمق الدفاعي الاستراتيجي" للجيش المصري. يعمل هذا المكون الدفاعي
المتقدم كطبقة حماية استباقية للحدود الشرقية لمصر؛ حيث تمثل القوات التابعة
للحركة قوة عسكرية لا يستهان بها، تقدر بنحو أربعين ألف مقاتل مدرب، ينظمون في
هيكل عسكري متكامل يشمل ألوية وكتائب متخصصة.
تمثل القوة العسكرية لحماس عاملاً حاسماً في تحقيق التوازن الاستراتيجي للجيش المصري في سيناء، خاصة في ظل القيود المفروضة بموجب اتفاقية كامب ديفيد التي تحدد حجم وتوزيع وتسليح القوات المصرية في المناطق المنزوعة السلاح. ففي الوقت الذي تفرض فيه هذه الاتفاقية قيوداً صارمة على الوجود العسكري المصري في سيناء، تشكل حماس قوة موازنة طبيعية تعوض هذا النقص الاستراتيجي.
تمتلك هذه القوة ترسانة صواريخ متنوعة تقدر
بأكثر من خمسة عشر ألف صاروخ، بالإضافة إلى شبكة أنفاق عسكرية معقدة تمتد لنحو
خمسمائة كيلومتر. يشكل هذا الحضور العسكري عامل ردع استراتيجي غير مباشر يحمي
العمق المصري من التهديدات المحتملة.
تحقيق التوازن العسكري في ظل قيود كامب
ديفيد
تمثل القوة العسكرية لحماس عاملاً حاسماً في
تحقيق التوازن الاستراتيجي للجيش المصري في سيناء، خاصة في ظل القيود المفروضة
بموجب اتفاقية كامب ديفيد التي تحدد حجم وتوزيع وتسليح القوات المصرية في المناطق
المنزوعة السلاح. ففي الوقت الذي تفرض فيه هذه الاتفاقية قيوداً صارمة على الوجود
العسكري المصري في سيناء، تشكل حماس قوة موازنة طبيعية تعوض هذا النقص الاستراتيجي.
يخلق الوجود المسلح لحماس واقعاً
استراتيجياً جديداً يحد من قدرة الجيش الصهيوني على التحرك بحرية على الجبهة
الجنوبية، مما يوفر للجيش المصري هامشاً أكبر للمناورة والحفاظ على التوازن
العسكري رغم القيود المفروضة عليه.
التحول في موازين القوى العسكرية
يؤثر الوجود العسكري لحماس بشكل مباشر على
المعادلة العسكرية الإقليمية. حالياً، يخصص جيش الاحتلال أربعة ألوية عسكرية كاملة
(ما يعادل نحو ستة عشر ألف جندي) لمراقبة حدود غزة، بالإضافة إلى لواءين متقدمين
مزودين بأنظمة دفاع متطورة (ما يعادل نحو ثمانية آلاف جندي) وثلاثة ألوية احتياطية
(ما يعادل نحو اثني عشر ألف جندي) في حالة الاستعداد الدائم.
في حال زوال التهديد العسكري من غزة، سيتمكن
جيش الاحتلال من إعادة انتشار هذه القوات إلى الجبهة المصرية، مما سيزيد الكثافة
العسكرية الإسرائيلية على الحدود المصرية بنسبة مائة وسبعين بالمائة. سينقل هذا
التحول ميزان القوى العسكري من وضع متوازن نسبياً إلى وضع غير متكافئ بشكل واضح
لصالح جيش الاحتلال.
الأبعاد الاستخباراتية والمعلوماتية الحرجة
تمثل حماس مصدراً استخباراتياً بالغ الأهمية
للجيش المصري، حيث توفر منصة متقدمة لجمع المعلومات عن التحركات الصهيونية
والأنظمة الدفاعية المتطورة. تقدم شبكة الرصد الميداني التابعة للحركة إنذاراً
مبكراً لا يقدر بثمن للقيادة المصرية، مما يمكنها من تتبع الاستعدادات العسكرية
لجيش الاحتلال ودراسة التقنيات العسكرية المتطورة.
فقدان هذا المصدر الاستخباراتي سيخلق فجوة
معلوماتية خطيرة، حيث سيفقد الجيش المصري ما يقرب من أربعين بالمائة من مصادر
معلوماته عن الأنشطة العسكرية الصهيونية. سيحتاج تعويض هذه الفجوة إلى استثمارات
ضخمة تقدر بأربعة مليارات دولار، بالإضافة إلى سنوات من العمل لبناء شبكات بديلة.
التداعيات الاقتصادية والمالية الجسيمة
ستتحمل مصر تكاليف اقتصادية باهظة في حال
نزع سلاح حماس. أولاً، إنشاء منظومة دفاع متكاملة جديدة على الحدود بتكلفة تقدر
بثلاثة مليارات ونصف المليار دولار، مقارنة بخمسمائة مليون دولار تنفق حالياً. كما
سترتفع تكاليف الأنشطة الاستخباراتية السنوية من ثلاثمائة مليون دولار إلى ملياري
دولار.
ستكون الخسائر الاقتصادية غير المباشرة أكثر
تأثيراً؛ حيث من المتوقع أن ترتفع من ملياري دولار سنوياً إلى خمسة مليارات دولار،
وذلك بسبب تأثير إغلاق المعابر على الاقتصاد المصري وزيادة تكاليف التأمين والأمن.
التحولات الجيوسياسية الإقليمية
سيؤدي نزع السلاح إلى إعادة تشكيل الخريطة
الجيوسياسية الإقليمية بشكل كامل. ستفقد مصر دورها كوسيط رئيسي في الملف
الفلسطيني، مما سيفتح الباب أمام صعود لاعبين إقليميين جدد على حساب النفوذ
والمكانة التاريخية لمصر. سيؤدي هذا التحول إلى إعادة هيكلة التحالفات الإقليمية
وتغيير ديناميكيات القوى في المنطقة.
ستتزايد التهديدات الأمنية المباشرة، مع
توسع النفوذ الصهيوني في سيناء وزيادة الضغط على الموارد الطبيعية. ستواجه الممرات
المائية الحيوية وخاصة قناة السويس تحديات أمنية متزايدة، بينما ستشهد سيناء زيادة
في الأنشطة التخريبية والعمليات غير التقليدية.
الخيارات الاستراتيجية المتاحة
تواجه مصر ثلاثة خيارات استراتيجية رئيسية:
الخيار الأول: يتمثل في دعم حماس والحفاظ
على قوتها وسلاحها بأي ثمن. يحقق هذا الخيار توازناً استراتيجياً، ولكنه يأتي على
حساب استنزاف الموارد، وزيادة التوتر الأمني، وتحمل الضغوط الدولية حتى انتهاء
الحرب.
الخيار الثاني: هو التخلي عن حماس. يخفف هذا
الخيار الضغوط الدولية على المدى القصير، لكنه سيؤدي إلى فقدان مصر لمكانتها
ومصداقيتها، وإضعاف قوتها المسلحة والاستخباراتية، لتصبح هي الهدف الاستراتيجي
التالي بعد حماس.
الخيار الثالث: يشمل إعادة هيكلة الوجود
العسكري لحماس بالاتفاق معها وبدعم عربي إسلامي، خاصة من السعودية وقطر وتركيا.
يحقق هذا الخيار توازناً يحافظ على حماس والمصالح المصرية معاً، لكنه يتطلب
تنسيقاً إقليمياً معقداً وموارد لوجستية كبيرة.
الرؤية الاستراتيجية المتكاملة
لحماية المصالح الوطنية المصرية، يجب تبني
استراتيجية متعددة المستويات:
على المدى القصير: تعزيز التنسيق الأمني مع
الفصائل الفلسطينية، وتطوير أنظمة المراقبة المتطورة على الحدود، وبناء تحالفات
إقليمية قوية.
إن قضية نزع سلاح حماس تمثل اختباراً حقيقياً للحكمة الاستراتيجية المصرية. إن الموازنة بين المتطلبات الأمنية والاعتبارات السياسية والمصالح الاقتصادية تتطلب رؤية متكاملة تستشرف المستقبل وتتعامل مع الواقع بمرونة وحكمة.
على المدى المتوسط: تنويع أدوات الردع
الاستراتيجي، وتعزيز التعاون العسكري مع الدول العربية والإسلامية مثل تركيا
وباكستان، والاستثمار في التكنولوجيا العسكرية المتطورة.
على المدى الطويل: إعادة هيكلة الاستراتيجية
الدفاعية الشاملة، وبناء قوة ردع متكاملة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية،
وتعزيز الوجود الإقليمي الفاعل.
نحو مستقبل استراتيجي آمن
إن قضية نزع سلاح حماس تمثل اختباراً
حقيقياً للحكمة الاستراتيجية المصرية. إن الموازنة بين المتطلبات الأمنية
والاعتبارات السياسية والمصالح الاقتصادية تتطلب رؤية متكاملة تستشرف المستقبل
وتتعامل مع الواقع بمرونة وحكمة.
سيعتمد النجاح في هذه المعادلة المعقدة على
القدرة على تطوير استراتيجية شاملة تجمع بين القوة العسكرية والحكمة السياسية
والمرونة الدبلوماسية، كل ذلك في إطار الحفاظ على الثوابت الوطنية والمصالح
الاستراتيجية العليا لمصر.
تتطلب هذه الرحلة الاستراتيجية إرادة قوية
ورؤية واضحة وقدرة على التكيف مع المتغيرات المتسارعة، مع الحفاظ على الأمن القومي
المصري وفي نفس الوقت الحفاظ على حماس كقوة مقاومة، وبالتالي الحفاظ على القضية
الفلسطينية، في ظل بيئة إقليمية ودولية متغيرة ومعقدة.