بين أنقاض المنازل
المدمرة وشوارع مليئة بالحطام، يعيش أهل
غزة يوميات صعبة بعد شهور الحرب بين نقص الغذاء
والماء يفاقم المعاناة، وفي وقت تكاد الملاجئ تكون معدومة، لكن وسط هذه الدمار، بدأت
جهود إعادة الحياة إلى القطاع بمبادرات إنسانية وهندسية غير مسبوقة.
وتتصاعد الجهود لصياغة
مستقبل جديد للمدينة المحاصرة، حيث برزت من بين هذه الجهود مؤسسة "
غزي ديستك"،
التي وضعت تصورًا شاملاً لإعادة إعمار القطاع على مدى خمس سنوات، بتكلفة تقديرية تصل
إلى 90 مليار دولار، تشمل بنية تحتية حديثة، ومدنًا ذكية، ومشروعات اقتصادية مستدامة
تعيد الحياة إلى أكثر من مليوني فلسطيني.
والتقت "
عربي21" بالمدير العام للمؤسسة عبد الماجد العالول، في حديث خاص، حيث أكد خلال
اللقاء أن الخطة التي أعدتها المؤسسة "ليست مجرد مشروع لإعادة البناء، بل رؤية
استراتيجية لإحياء الإنسان والمكان في غزة، وتحويلها إلى نموذج عمراني حديث رغم التحديات
السياسية والاقتصادية الهائلة".
وأكد العالول أن
الخطة التي تمتد على مدى خمس سنوات، وتقدر تكلفتها بنحو 90 مليار دولار، مؤكداً أنها
"خطة متكاملة تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والمكان، دون
تهجير أي من سكان القطاع".
وأوضح العالول أن الخطة
التي أعدّتها المؤسسة "تقوم على أربع مراحل متداخلة، تشمل الإغاثة، والتعافي وإعادة
الإعمار، ثم التنمية، وأخيراً الوقاية والجاهزية"، مشيراً إلى أن "كل مرحلة
من هذه المراحل تمثل ركيزة أساسية لإعادة الحياة تدريجياً إلى غزة التي أنهكتها الحرب".
أربع مراحل متكاملة
للإعمار
وقال العالول إن المرحلة
الأولى هي مرحلة الإغاثة العاجلة، وتشمل توفير الغذاء والمياه والمأوى الطارئ، "الناس في غزة ما زالوا يعانون من الجوع، وهناك
حالات وفاة يومية بسبب نقص الغذاء، كما يعاني السكان من أزمة حقيقية في مياه الشرب".
وأشار إلى أن المؤسسة
تعمل على "تأمين خيام عاجلة مقاومة للبرد والمطر للمتضررين جزئياً، وكرافانات
سكنية مؤقتة للأسر التي تهدمت منازلها كلياً"، مضيفاً أن "المرحلة الأولى
يجب أن تنفذ بشكل عاجل، لأنها تتعلق بإنقاذ الأرواح وتوفير الحد الأدنى من الكرامة
الإنسانية".
أما المرحلة الثانية
فهي مرحلة التعافي وإعادة الإعمار، وتهدف إلى "إعادة بناء البنية التحتية والمساكن
والمرافق الحيوية".،
حيث قال العالول "نركز على إعادة تشغيل المستشفيات والمدارس
والمصانع، ومعالجة الجرحى، وتركيب الأطراف الصناعية، وتوفير الدعم النفسي للمتضررين
من الحرب"، مضيفاً أن "العمل في هذه المرحلة يستمر نحو ثلاث
سنوات، لكنه يبدأ بالتوازي مع مرحلة الإغاثة لتسريع العودة إلى الحياة الطبيعية".
وبخصوص المرحلة الثالثة،
أوضح العالول أنها "مرحلة التنمية التي فقدها القطاع خلال الحرب"، وتهدف
إلى "استكمال مشاريع التنمية المتوقفة وتشغيل الشباب ودعم الاقتصاد المحلي".
"نتحدث عن فترة تمتد من سنتين إلى خمس سنوات
لإعادة الإعمار الكامل، وخلالها سنعمل على إنشاء حاضنات أعمال صناعية وزراعية ومشاريع
تشغيل عن بعد لتوفير دخل مستدام للأسر".
أما المرحلة الرابعة،
فهي مرحلة الوقاية والجاهزية، التي وصفها بأنها "خط الدفاع الأول ضد أي كوارث
أو أزمات مستقبلية، تهدف إلى تجهيز البنية التحتية لتكون أكثر صموداً، من خلال رفع جاهزية
الدفاع المدني والإسعاف والطوارئ، وإنشاء ملاجئ آمنة، وهو ما تفتقده غزة تماماً".
خمس سنوات دون تهجير
السكان
وأكد المدير العام
لمؤسسة "غزي ديستك" أن الخطة مصممة بحيث يمكن تنفيذها كاملة خلال خمس سنوات
دون الحاجة لتهجير السكان، حيث قال "حددنا المدة الزمنية الإجمالية بخمس سنوات،
منها عام للإغاثة، وثلاثة للتعافي وإعادة الإعمار، وسنة إلى سنتين للتنمية والوقاية،
والمراحل كلها متداخلة حتى لا تتوقف عملية البناء"
وأضاف أن المؤسسة
"اعتمدت منهجية دقيقة في إعداد الخطة"، موضحاً أن "كل ضرر في القطاع
تم توثيقه من خلال مصادر حكومية ودولية وصور أقمار صناعية وفرق ميدانية، ومن ثم تم
تحديد الاحتياج بدقة لكل مرحلة من مراحل الإعمار".
خمس قطاعات وسبعمئة
مشروع
وبيّن العالول أن الخطة
تغطي خمس قطاعات رئيسية، هم القطاع الاجتماعي، القطاع الاقتصادي، القطاع
البيئي، قطاع البنية التحتية، و قطاع الحكم الرشيد، حيث تندرج تحت هذه القطاعات 17
برنامجاً رئيسياً تضم نحو 700 مشروع.
قال "كل مشروع منها وُضع وفق المصفوفة العامة للخطة،
ليغطي مراحل الإغاثة والتعافي والتنمية والوقاية بشكل متكامل"
أرقام وتكاليف
وفيما يخص التكاليف،
أوضح العالول أن خطة الإعمار تحتاج إلى نحو 90 مليار دولار، موزعة على مراحلها المختلفة
كالتالي:
14 مليار دولار لمرحلة الإغاثة
45 مليار دولار للتعافي وإعادة الإعمار
10 مليارات دولار للتنمية
15 مليار دولار للوقاية والجاهزية
"وأشار
العالول خلال اللقاء أن التقديرات كانت في كانون الثاني / يناير نحو 80 مليار دولار، لكنها ارتفعت
إلى 90 ملياراً مع تزايد حجم الدمار والاحتياجات".
وأشار إلى أن المؤسسة
نفذت أكثر من 4500 مشروع منذ بداية الحرب، رغم الصعوبات الهائلة وإغلاق المعابر.
حلول ابتكارية للتغلب
على الحصار
كشف العالول أن المؤسسة
طورت آليات مبتكرة لتجاوز العقبات الناتجة عن الحصار ومنع دخول المساعدات، أبرزها تطبيق
إلكتروني لتحويل المساعدات النقدية دون عمولات، ومشاريع زراعة منزلية للمتضررين لتأمين
جزء من احتياجاتهم الغذائية.
كما أوضح أن المؤسسة
نفذت مشاريع إيواء بديل باستخدام مواد محلية عندما تعذّر إدخال الكرافانات، مشيراً
إلى أنه تم تجهيز 6000 خيمة في مصر بانتظار إدخالها إلى غزة، إضافة إلى مدن خضراء من
الكرافانات تضم مدارس ومراكز طبية ومساجد ومساحات للأطفال، تعمل بالطاقة الشمسية وتحتوي
أنظمة لمعالجة مياه الصرف الصحي.
مدن ذكية وبنية مستدامة
وبين العالول أن المؤسسة
وضعت تصورا لإنشاء مدينتين ذكيتين جديدتين في شمال وجنوب القطاع، تراعيان المعايير
البيئية الحديثة، وتوفران مساكن عصرية مجهزة بالبنية الرقمية والطاقة المتجددة.
وأضاف أن التصميمات
تعتمد على مفهوم "المدن القابلة للتوسع"، بحيث يمكن تطويرها مستقبلاً دون
الحاجة لهدم أو تعديل كبير في البنية الأساسية، مشيرًا إلى أن الفكرة الأساسية هي أن
يعيش المواطن في بيئة صحية وآمنة ومستقرة اقتصاديًا.
وقال العالول إن "غزي
ديستك" تعمل مع عدد من الشركاء الدوليين والمكاتب الهندسية في أوروبا وماليزيا
وتركيا لصياغة كود بناء خاص بقطاع غزة يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الجغرافيا وندرة الموارد
ومخاطر الحرب، وأن بالفعل هناك استعداد لدخول مدينتين لغزة مخزة
في مصر في الوقت الحالي، مشيرا إلى أنه في حالة الحصول على الموافقات اللازمة من
السهل تنفيذ أكثر من مدينة في وقت أقل.
وأكد أن عملية تصنيع
وتركيب كل مدينة لا تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر إذا كانت المعابر مفتوحة، مشيراً إلى
أن "الخطة تستهدف إنشاء 300 مدينة كرفانية تضم 300 ألف وحدة سكنية، إضافة إلى
153 ألف خيمة لإيواء الأسر المتضررة جزئياً".
تدوير الركام وحاضنات
الأعمال
وتابع العالول قائلاً: "نعمل حالياً على إنشاء محطات لتدوير ركام
الحرب بالتعاون مع الصين، حيث نحتاج إلى نحو 12 محطة يمكن إنجازها خلال عام وثلاثة
أشهر بعد الموافقات".
وأوضح أن المؤسسة بصدد
إنشاء حاضنات أعمال صناعية وزراعية لدعم الصناعات المرتبطة بالإعمار مثل الطوب، والكهرباء،
والسباكة، والدهان، إضافة إلى حاضنة للعمل عن بعد لتشغيل 100 ألف شاب داخل غزة بالتعاون
مع شركات في 70 دولة حول العالم.
تحديات سياسية
وحذر العالول من أن
العائق الأساسي أمام تنفيذ خطة الإعمار هو الواقع السياسي والموافقات الإسرائيلية،
قائلاً: "الخطة تحتاج إلى دخول 1500 شاحنة يومياً إلى
قطاع غزة لتنفيذها خلال خمس سنوات، والسؤال: هل سيسمح الاحتلال بذلك؟ إذا تم إدخال
500 أو 700 فقط، فسنحتاج لضعف المدة".
وأشار إلى أن
"أي تعثر سياسي أو عودة للحرب سيؤخر التنفيذ بشكل كبير"، مضيفاً أن
"التصريحات الأمريكية الأخيرة التي تتحدث عن بطء عملية الإعمار ليست مطمئنة".
الحاجة إلى العمالة
والمعدات
أكد العالول أن تنفيذ
الخطة يتطلب توفير نحو 400 ألف عامل داخل القطاع، و2150 آلية وشاحنة وجرافة على الأقل."العمالة المتوفرة حالياً غير كافية، لذا نعمل
على برامج تدريب وتأهيل عاجلة لتوفير القوى العاملة اللازمة"
أولويات عاجلة: الإيواء
والتشغيل
وفي ختام حديثه، شدد
المدير العام لمؤسسة "غزي ديستك" على أن أولوية المرحلة الراهنة تتركز في
مشروعين أساسيين: "الأول هو تأمين المأوى العاجل من خلال توفير
153 ألف خيمة و316 ألف وحدة سكنية من الكرافانات للمتضررين، والثاني هو توفير فرص عمل
عاجلة عبر مشروع التشغيل عن بعد، لضمان بقاء الناس في غزة ومنع الهجرة الطوعية".
وأضاف العالول: "إذا استطعنا أن نوفر المأوى وفرص العمل،
فسنكون قد حققنا أهم هدفين في هذه المرحلة، وهما الأمان والكرامة للناس في غزة".