ملفات وتقارير

"حايكٌ أبيض" وصوتٌ عال.. مغربيات من فكيك يروين قصة عطش وكرامة

جيلٌ رقميٌّ يرفع الهاتف والهاشتاغ ونساء من الهامش يرفعن القوارير الفارغة- أكس
بينما تعمّ مدن مغربية كبرى كالرّباط والدار البيضاء بمظاهرات "جيل Z 212" المطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية وإسقاط الفساد، تعيش الواحة الشرقية فكيك على إيقاع مسيرة نسائية غير مسبوقة، تُعيد رسم مشهد النضال المغربي من الهامش إلى الواجهة. 

في مدينة تتجاوز حرارة صيفها الأربعين، خرجت النساء بالحايك الأبيض (لباس من القماش أبيض اللون تلتحف به المرأة لتستر سائر جسدها مع إضافة العجار وهو قطعة صغيرة من القماش تضعها المرأة لتغطي وجهها)، يملأن الأزقة والدروب القديمة صادحات بجُملة من الشعارات، من قبيل: "الماء حق مش سلعة"، مجددات في الوقت ذاته، الذكرى الثانية لما صار يُعرف بـ"حراك الماء".


منذ عامين… العطش عنوان الحكاية
بدأت شرارة الحراك في عام 2023، حين قرّر المجلس الجماعي تفويت تدبير مرفق الماء الصالح للشرب إلى شركة جهوية متعددة الاختصاصات. وهي خطوةٌ رآها السكان تهديدا مباشرا لأمنهم المائي ولتاريخ الواحة، حيث ارتبطت حياة الناس منذ قرون بعيون الماء والفرشات الجوفية التي تحفظ توازن النظام البيئي.

منذ ذلك اليوم، ظلّت أصوات فكيك تردّد شعارا واحدا: "الماء حق وليس امتيازا". لكن المختلف هذه المرة أن من تصدّرن الصفوف هنّ النساء فقط، (أمهات، طالبات، وعاملات)، إذ بذلك يُجدّدن تقليدا قديما في المقاومة ويمنحنه نفسا معاصرا.



"حايك" المقاومة
في صباح صامت إلا من وقع الأقدام على تراب الواحة، انطلقت المسيرة النسائية الكبرى. لم تكن النساء يرفعن سوى القوارير الفارغة وشعارات تُحذّر من خطر "خصخصة الحياة/ الماء". يقدن الدراجات الهوائية أو يمشين في جماعات متلاحمة.

قالت إحدى الناشطات في الحراك عبر اتصال هاتفي لـ"عربي21" إنّ: "الرجال غادروا المدينة بحثا عن العمل، لكن النساء بقين يحرسن الماء والنخيل والذاكرة".

يشار إلى أنّ النساء في فكيك تشكّلن ما يناهز 60 في المئة من الساكنة، ومعظمهن يتحمّلن أعباء تدبير الحياة اليومية، وذلك في ظل شحّ الموارد وغياب فرص الشغل. لذلك، تحوّل الماء إلى قضية وجودية أكثر منها مطلبا خِدْميًا.

أيضا، يروي تاريخ المنطقة أنّ نساء فكيك لم يكنّ يوما على الهامش. فخلال فترة الاستعمار الفرنسي، قد شاركن في دعم المقاومة المغربية، وأمّنّ الممرّات السرّية للمجاهدين.

لكن مع مرور العقود، طغى النسيان على هذا الدور، وتراكم التهميش في منطقة ظلت خارج خرائط التنمية. لذلك، تبدو المسيرة النسائية اليوم بمثابة استعادةً رمزية لتلك المكانة، ورسالة تقول إنّ: "التاريخ لا يُروى من المركز فقط".


سلمية الحراك.. 
على مدار ستة عشر شهرًا من الاعتصامات والوقفات المتنقّلة، حافظت النساء على سلمية الحراك. ينسّقن عبر مجموعات "واتساب"، ويعقدن لقاءات لشرح المخاطر البيئية والاقتصادية لقرار التفويت، في مشهد يجمع بين التنظيم المدني والتشبّث بالهوية الثقافية.

في السياق ذاته، أبرزت إحدى منسقات المسيرة، تُدعى فاطمة الزهرة، في حديثها لـ"عربي21": "نحن لا نطلب المستحيل، إنّنا نريد فقط أن يُدار الماء من قِبل جماعتنا الترابية، لا من شركة غريبة عن الواحة".

وكانت منظمة النساء الاتحاديات، في وقت سابق، قد دعت الحكومة المغربية، التي يترأسها عزيز أخنوش إلى: "التراجع عن التفويت"، مؤكدة أنّ "النساء في المناطق الحدودية يحملن عبء الدفاع عن موارد البلاد في صمت".

المنظمة نفسها، كانت قد طالبت بدعم مشاريع الاقتصاد التضامني المحلي وتمكين النساء من بدائل تنموية تحفظ خصوصية الواحات. كما وجّهت دعوات للحكومة لاعتماد مقاربة تشاركية تدمج النساء في إدارة الموارد الطبيعية، انسجاما مع توصيات الأمم المتحدة حول الأمن المائي وتمكين المرأة.

من الماء إلى الهوية
في فكيك، الماء ليس مجرّد مورد طبيعي، بل هو جزء من الهوية الجماعية. من عيون "تاغرامت" و"العرجة" تشرب النخيل وتُروى الحقول الصغيرة التي تشكّل العمود الفقري للاقتصاد المحلي. فيما بات قرار التفويت يوصف بكونه: "يُهدّد بتغيير نمط العيش التقليدي، ويزرع الخوف من رفع الأسعار وتراجع العدالة المائية".

وأكّدت الساكنة وخلال احتجاجاتها، أنّ: "نقل التدبير إلى شركة جهوية سيحوّل الماء إلى سلعة خاضعة لمنطق الربح، بدل كونه خدمة عمومية تُدار وفق حاجات المجتمع المحلي".

كذلك، أبرز عدد من الباحثين إلى أنّ ما يحدث في فكيك ليس معزولا، بل يعكس اتّجاهاً وطنيا نحو خوصصة المرافق الحيوية، ضمن ما يُسمّى بالإصلاح الهيكلي للخدمات. لكن المفارقة أنّ هذه الإصلاحات غالبا ما تُهمّش المناطق الهشّة التي تفتقر للبنى التحتية أصلا.

ومع انتشار مقاطع الفيديو للنساء المحتجات، على نطاق واقع في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، تسارع التضامن معهم من مختلف الفئات الاجتماعية، فيما فتح الباب على مصراعيه أمام جُملة من الأسئلة، من قبيل: هل يمكن للمدن الصغيرة أن تُسمِع صوتها في زمن المركزية الاقتصادية؟

إلى ذلك، بين حراك شباب "جيل Z 212" الذي يطالب بالتغيير في الشوارع الكبرى، ونساء فكيك اللواتي يحمين الحياة في الهامش، تتكوّن خريطة احتجاج جديدة في المغرب، قوامها الوعي، والسلمية، والإصرار على العدالة.

وجاء في عدد من التعليقات على مقاطع الفيديو المتداولة أنّ: "جيلٌ رقميٌّ يرفع الهاتف والهاشتاغ، ونساء من الهامش يرفعن القوارير الفارغة وأيديهن نحو السماء، وكلتاهما رسالتان ضد التهميش واللامساواة".

هكذا، من أقصى الشرق المغربي إلى قلب العاصمة، تمتدّ خيوط نضال هادئ لكنه عميق، تقوده نساء وفتيات وشباب يؤمنون أن العدالة لا تتجزأ، وأن الحق في الماء لا يقل قداسة عن الحق في الكلمة.