تحولت منصات
التواصل الاجتماعي خلال العقدين الأخيرين من أدوات للتسلية والتواصل إلى أدوات استراتيجية تمكن المجتمعات من تنظيم نفسها، وتبادل المعلومات، وحتى التأثير السياسي والاجتماعي وإقامة الانتفاضات والثورات.
ومن بين هذه المنصات، برز في الحراك والاحتجاجات في
نيبال والمغرب٬ تطبيق "
ديسكورد" الذي صمم أساسا لتسهيل التواصل بين هواة الألعاب الإلكترونية، ليصبح نموذجا في تجاوز الرقابة الحكومية، واستثمار الفضاء الرقمي لإنشاء مجتمعات افتراضية مستقلة بعيدا عن أعين النظام.
منصة الألعاب التي تجاوزت جمهورها الأصلي
أُطلق "ديسكورد" عام 2015 على يد المطورين ستانيسلاف فيشنيفسكي٬ وجيسون سيترون، مستفيدين من تجربتهما المشتركة في تصميم لعبة الهواتف المحمولة "فيتس فور إيفر". كان الهدف الأول للمنصة توفير بيئة متكاملة للمحادثات النصية والصوتية بين اللاعبين، مع إمكانية التواصل خلال اللعب وبعده.
وبحلول أيلول/سبتمبر الماضي٬ بلغ عدد مستخدمي المنصة "النشطين شهريا نحو 200 مليون شخص، يقضون في اللعب وحده أكثر من 1.9 مليار ساعة شهريا. وعلى الرغم من شهرتها بين مجتمعات الألعاب، توسع نطاق استخدامها ليشمل الفنون، والموسيقى، والقراءة، والنقاشات العامة، مما جعلها فضاء رقمي متعدد الأغراض وليس مجرد منصة ألعاب.
النشأة والتأسيس
بدأت قصة "ديسكورد" في 2012 عندما أسس جيسون سيترون أستوديو الألعاب "فينيكس غيلد" بهدف تطوير تجارب تفاعلية تجمع اللاعبين حول الألعاب الجماعية. المشروع الأول كان لعبة "فيتس فور إيفر" على الهواتف المحمولة، التي ركزت على دمج أدوات التواصل ضمن بيئة اللعب.
في نيسان/أبريل 2013، انضم المطور ستانيسلاف فيشنيفسكي، وواصل الشريكان تطوير اللعبة، قبل إعادة تسمية الأستوديو إلى "هامر آند تشيزل" في صيف 2014، وإطلاق نسخة موسعة من "فيتس فور إيفر"، تضمنت خصائص جديدة مثل الدردشة النصية والصوتية، والمنتديات المدمجة، التي أسست لاحقا لبنية "ديسكورد" الجديدة.
في أيار/مايو 2015، أطلق الشريكان النسخة الأولى من "ديسكورد"، لتصبح بيئة متكاملة للتواصل النصي والصوتي على الحاسوب والهواتف، موجهة للاعبين بالأساس، لكنها سرعان ما تجاوزت هذا الجمهور لتشمل فئات متعددة من المستخدمين.
مميزات المنصة
توفر المنصة خدمات متعددة تشمل الخوادم (سيرفرز)، التي ينشئها المستخدمون لتنظيم المحادثات النصية أو الصوتية أو المرئية. كل خادم يمكن أن يضم حتى نصف مليون عضو، مع 500 قناة موزعة على 50 فئة.
القنوات النصية: لتبادل الرسائل والصور والروابط وملفات "جيف".
القنوات الصوتية: للتفاعل المباشر مع المحادثات الجارية، مع إمكانية الدردشة الكتابية بالتوازي.
القنوات المرئية: لتنظيم اجتماعات جماعية ومشاركة الأنشطة الترفيهية.
تتيح المنصة أيضا أدوات آلية (بوتز) لإدارة النقاشات والترحيب بالأعضاء الجدد وتشغيل الموسيقى، وهو ما يتيح للمؤسسات والشركات أتمتة بعض المهام داخل الخوادم. وتتوفر نسخة مدفوعة "ديسكورد نيترو" لزيادة عدد الخوادم المسموح بها إلى 200، مع تخصيص الأسماء المستعارة والإشعارات لكل خادم.
محطات التطوير التكنولوجي
في ربيع 2016، أطلق "ديسكورد" خاصية التراكب داخل اللعبة على الحاسوب، التي تسمح بعرض معلومات أساسية والتفاعل دون مغادرة اللعبة. وأضافت المنصة ميزة قائمة الأصدقاء، وأطلقت واجهتها البرمجية "API" لتصبح أساسا لمئات الآلاف من التطبيقات.
مع مطلع 2017، أطلقت خدمة "ديسكورد نيترو" لدعم المنصة مقابل مزايا إضافية، بما في ذلك استخدام الرموز التعبيرية المخصصة في أي مكان وتعيين صورة رمزية متحركة. كما أضافت مكالمات الفيديو ومشاركة الشاشة لجميع المستخدمين، وواجهة "الحضور الغني" لعرض حالة اللعب مباشرة.
في منتصف 2019، أطلق "ديسكورد" ميزة "غو لايف" لبث الألعاب مباشرة، وميزة تعزيز الخوادم لفتح مزايا إضافية، وفي 2021 دخلت شراكة مع بلايستيشن لربط الحسابات وعرض الألعاب على أجهزة PS5.
خلال جائحة كورونا، توسع استخدام المنصة بشكل كبير، إذ أصبحت وسيلة أساسية للحفاظ على المجتمعات الافتراضية والتواصل أثناء فترات الإغلاق، واستمر استخدامها بعد رفع القيود من قبل الفنانين، وصانعي المحتوى، والمعلمين، والشركات.
"ديسكورد" كأداة احتجاج وتنظيم سياسي
في 2025، استخدم شباب جيل زد في نيبال والمغرب "ديسكورد" كأداة رئيسية لتنظيم احتجاجاتهم ضد الحكومات، وإدارة عمليات اتخاذ القرار، وتنظيم الانتخابات.
في
نيبال: تحولت الاحتجاجات إلى ثورة رقمية، أسقط المحتجون الحكومة القديمة، وأقاموا برلمانا افتراضيا على المنصة، وانتخبوا القاضية السابقة سوشيلا كاركي رئيسة وزراء مؤقتة في 12 أيلول/سبتمبر الماضي٬ بعد احتجاجات دامية خلفت 25 قتيلا ومئات الجرحى. وقد استخدم المحتجون مجموعة "هامي نيبال" لإدارة النقاشات، مستفيدين من تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي" لتوليد قوائم المرشحين.
في
المغرب: حولت مجموعة شبابية أطلقت على نفسها اسم "جيل زد 212" ديسكورد إلى غرفة عمليات رقمية، لتنسيق الاحتجاجات، ومتابعة المظاهرات، وتوفير التعليمات للحفاظ على سلمية التحرك. بدأت المجموعة بعدد محدود من الأعضاء، لكن سرعان ما تجاوز عدد المشاركين 150 ألف عضو، أغلبهم بين 15 و28 عاما، مع اعتماد آلية التصويت الجماعي لحسم القرارات.
التجارب العربية السابقة
تشير التجارب في نيبال والمغرب إلى قدرة المنصة على تجاوز الرقابة الحكومية، واستثمار الخصائص التقنية للتنظيم الذاتي للشباب، بما يشبه الدور الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي خلال الربيع العربي.
في مصر، مثلا، لعبت صفحات مثل "كلنا خالد سعيد" على منصة فيسبوك وشبكة 6 أبريل دورا محوريا في حشد الشباب وتنظيم مظاهرات 25 كانون الثاني/يناير 2011، بعد أن أصبحت الإنترنت وسيلة بديلة لنقل الأخبار ومتابعة الأحداث بعيدا عن الإعلام الرسمي.
ساهمت هذه المنصات في خلق فجوة بين الحاكم والمحكوم، وأتاحت للشباب إدارة الحوار حول الأوضاع السيئة من فقر وجهل ومرض، والبحث عن سبل للخروج من الأزمة.
فشل الأنظمة في السيطرة
رغم وجود اللجان الإلكترونية والرقابة الرقمية، تظل منصات مثل "ديسكورد" صعبة السيطرة لأسباب عدة منها:
المرونة التنظيمية: قدرة المستخدمين على إنشاء خوادم وقنوات مخصصة، تجعل الرقابة الشاملة شبه مستحيلة.
الأدوات التفاعلية: استخدام البوتات والذكاء الاصطناعي لإدارة النقاشات بشكل آلي ومستقل.
الانتشار العالمي: المنصة تعمل عبر الحدود، ما يحد من تأثير الرقابة المحلية.
الخصوصية النسبية: محتويات الخوادم شبه مغلقة وغير قابلة للفهرسة في محركات البحث، ما يزيد صعوبة التعقب.
يثبت "ديسكورد" أنه أكثر من مجرد منصة ألعاب، بل أصبح فضاء استراتيجيا لإدارة المجتمعات الافتراضية وتنظيم الاحتجاجات والمبادرات الجماعية، مدعوما بالأدوات التقنية والذكاء الاصطناعي.
ويظهر من التجارب في نيبال والمغرب، وكذلك عبر الدروس المستفادة من ثورات الربيع العربي، أن التحكم الحكومي الكامل في الفضاء الرقمي أصبح تحديا كبيرا، مهما استخدمت الأنظمة من لجان إلكترونية أو قيود على الإنترنت.