كتاب عربي 21

آلة الإبادة تتكلم بالعربية!

"المسار الإعلامي تحوّل بالضرورة إلى دعاية نسبية للسردية الإسرائيلية"- جيتي
يُسهّل الإعلام العربي مهمّة معرفة المواقف الحقيقية للحكومات العربية من القضية الفلسطينية، بما في ذلك حرب الإبادة على غزة، وتحولات هذه الحرب، كما في الاتفاق الأخير الذي يُفترض فيه وقف هذه الإبادة، والدفع نحو مسارات تفاوضية بخصوص الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة. ما يفيده هذا الإعلام بأدائه، أي بلسان حاله، ينبغي أن يقطع أيّ تحليل تقليديّ يصرّ عليه بعض المثقفين العرب، وأحيانا، وهذه مفارقة، بعض المنحازين منهم للقضايا العامّة، بيد أنّهم يتورّطون في اعتقاد انفصال بين السياسات الإسرائيلية والمواقف الحقيقية لحكومات التطبيع العلني والسرّي مع "إسرائيل"، وهي ورطة مزمنة، كتلك التي ظلّت تتحدث بلا ملل عن تباينات جوهريّة بين المواقف الحقيقية للإدارة الأمريكية وتوجهات حكومة بنيامين نتنياهو.

منذ سنوات تحوّلت القضية الفلسطينية في الإعلام العربي إلى مسألة قابلة لتعدد وجهات النظر، لا من جهة المعالجات النضالية والسياسية الفلسطينية وما يحفها من انقسامات وتباينات، إذ هذه الجهة يجب أن تخضع دائما بطبيعة الحال للنقاش الفلسطيني والعربي وفي أطر المهتمين بالقضية الفلسطينية على قاعدة الانحياز لها، ولكن من جهة جعل القضية الفلسطينية نفسها قابلة لاحتمال السردية الإسرائيلية.

إدارات هذه القنوات، والضيوف الذين تعنى باستضافتهم، لم تكن مشكلتهم أبدا في الإبادة، بل في كون حماس لم تفن بهذه الإبادة

هذا المسار الإعلامي تحوّل بالضرورة إلى دعاية نسبية للسردية الإسرائيلية، استدخلها الإعلام العربي في سياق محايث لتراجع التبني العربي للقضية الفلسطينية ومتغذ منه، بدأ ذلك من بعد توقيع اتفاقية أوسلو وموجة التطبيع الأولى أواسط تسعينيات القرن الماضي، ثمّ تعزز أكثر بعد احتلال أمريكا للعراق عام 2003 وتأسيس قنوات إخبارية ممولة حكوميّا إثر ذلك؛ تنحاز لهذا الاحتلال وتعادي المقاومة العراقية حينها، حتى باتت الإبادة أخيرا تبدو كأنّها مقبولة على شاشتي "العربية" و"سكاي نيوز عربية"، أو على الأقل تختفي بهولها الرهيب خلف الهجوم المستمرّ على حركة حماس، وقلب الموقف بتصوير الحركة وكأنّها المسؤولة عن الإبادة، بل قلب موقف الصراع كلّه بتحويل الضحية إلى أصل المشكلة الأصلية لا الاستعمار الصهيوني وسياساته! مدير "سكاي نيوز عربية" مثلا دعا إلى إنهاء المقاومة في المنطقة العربية بـ"كيّ الوعي"، وهو مفهوم إسرائيلي راج في فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأسست عليه "إسرائيل" عقيدة الضاحية في حرب تموز/ يوليو 2006، وأخيرا الإبادة الجماعية على غزّة.

بالنظر إلى بعض ما راج من مقاطع في مواقع التواصل الاجتماعي، يتضح أنّ إدارات هذه القنوات، والضيوف الذين تعنى باستضافتهم، لم تكن مشكلتهم أبدا في الإبادة، بل في كون حماس لم تفن بهذه الإبادة، كما في كلام لإعلامي شهير يعمل في "سكاي نيوز عربية" ويظهر محللا على شاشتها، قال إنّ استمرار حماس بعد الحرب يصيبه بالاكتئاب وهو ما على أمريكا معالجته. يرجع بي هذا الأمر إلى العديد من المقالات التي كتبتها منذ بداية الحرب، عن كون الإبادة مُجازة من بعض الدول العربية إذا كانت سوف تفضي إلى إنهاء وجود حماس، ولم يكن الأمر فيض عبقرية في التحليل، ولكنه الاعتبار المطلوب لظواهر الأمور، أي أداء حكومات هذه البلاد، إذ هي تنادي على نفسها بذلك.

حتى استمرار الوقائع العدوانية كالوجود العسكري الإسرائيلي الباقي في غزّة من بعد توقيع الاتفاق؛ لم تهتم به هذه القنوات إلا لاستخدامه دليلا على القول بهزيمة حماس، وأمّا الانبساط الإداري الذي فرضته قوى الشرطة والأمن في غزّة بعد وقف النار، وقد طال قوى تخريبية احترفت طعن المقاومة في ظهرها حين المعركة وسرقة المساعدات ونشر الفوضى والفلتان، فقد أصرّت هذه القنوات على وصفه بالحرب الأهلية وانتقام حماس من خصومها، إذ تفرغت قناة "العربية" لهذه الوظيفة، وحينما استأنف الاحتلال عدوانه الواسع يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر سارعت القنوات نفسها لتحميل حماس المسؤولية واتهامها بالبدء بانتهاك وقف إطلاق النار. وهذا كلّه متصل بما سربته الصحافة العالمية عن إبداء دول عربية بعينها للولايات المتحدة مخاوفها من وجود حماس وقدرتها على بسط أمنها بهذا النحو السريع، أي أنّ الإبادة لم تنه مهمتها بعد!

يفترض أنّ حركة حماس لم تبادئ هذه الحكومات بأيّ عداء، وبالرغم من كون هذه الحكومات لم تدعم يوما الخطّ المقاوم للحركة، فإنّها تسامحت نسبيّا مع حضورها التمثيلي على أراضيها في أوقات سابقة، وأظهرت أحيانا صورا من التواصل الرسميّ معها، وهو الأمر الذي أخذ يتغير بالتدريج منذ العام 2001 بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر في محاولة من تلك الحكومات لإعادة إنتاج نفسها أمام الولايات المتحدة، ليتسارع هذا التغير بعد ذلك منذ العام 2007، أي بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية ثمّ وقوع الانقسام الفلسطيني، ويقفز واسعا، أخيرا، نحو التخندق لاغتيال الحركة وهي تقاتل عدوّ شعبها في غمرة الإبادة الجماعية الواقعة على شعبها. جاءت هذه القفزة تأسيسا على سياسات تدمير السياسة والمجال العام في البلاد العربية التي دُفِع بها بعد ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي" عام 2011،
مسار ماض بإصرار نحو الاصطفاف الكامل مع "إسرائيل"، تبلور بنحو لا رجعة عنه في السنوات الأخيرة، وهذا المسار لا تزيده رطانة البيانات الرسمية إلا افتضاحا، ليس فقط لأنّها لا تُصدق نفسها تاليا بأيّ فعل في الواقع، ولكن أيضا لأنّها لا قيمة لها بالمرّة مع هذا الإعلام المنحاز لخطّ الإبادة
ثمّ من بعد تسارع سياسات التربيط الإبراهيمي بين هذه الحكومات و"إسرائيل" مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته السابقة عام 2017، وهو ما جرى تتويجه بسلسلة الاتفاقات الإبراهيمية عام 2020، وذلك بعدما شاركت دول أخرى لم توقع على تلك الاتفاقيات في "ورشة عمل السلام من أجل الازدهار" التي عقدت في البحرين عام 2019 لتكون المقدمة الاقتصادية لمشروع ترامب في حينه للقضية الفلسطينية، الذي عرف إعلاميّا بـ"صفقة القرن".

وإذن، فهذه الحكومات باستثمارها في الإبادة عبر إعلامها وما تردفه به من لجان إلكترونية، وصحف ومواقع، وشخصيات ثقافية وإعلامية ودينية وسياسية، لا تصفي حسابا مع حركة حماس التي لم تنتهج سياسات عربية أو إقليمية، ولم تنخرط في شأن أيّ بلد عربيّ، وانتهجت لغة إعلامية دبلوماسية تحاول بها تخفيف عداء هذه الحكومات أو تحييدها، وهي لغة إعلامية أخفت الكثير من الحقائق مما تعرضت له هذ الحركة ومصالحها وكوادرها من ظلم مباشر؛ بالاعتقال ومصادرة الممتلكات وطرد العناصر. ولم تتجاوز السياسات الإقليمية للحركة قضيتها وثغرها، فعلاقاتها منوطة بموضوعها الفلسطيني، وليس بأيّ اصطفاف له بعد آخر، وهو أمر كان يستدعي أحيانا سوء الفهم من مراقبين من بيئة داعمي مقاومتها، فقد كان يُعبِّر البعض عن اعتقاد بأنّ الحركة لها تحالفاتها الخاصة مع دول خليجية، هي عينها التي تموّل اليوم القنوات التي تطمس الإبادة لصالح اغتيال حماس وتحطيمها!

فلا حساب لتصفيته إذن، وإنّما هو مسار ماض بإصرار نحو الاصطفاف الكامل مع "إسرائيل"، تبلور بنحو لا رجعة عنه في السنوات الأخيرة، وهذا المسار لا تزيده رطانة البيانات الرسمية إلا افتضاحا، ليس فقط لأنّها لا تُصدق نفسها تاليا بأيّ فعل في الواقع، ولكن أيضا لأنّها لا قيمة لها بالمرّة مع هذا الإعلام المنحاز لخطّ الإبادة، ما دامت هذه الإبادة من شأنّها أولا: أن تقتلع ما تعنيه الحركية الإسلامية في صيغتها المقاومة، وثانيا: أن تُجرّد القضية الفلسطينية من عناصر التسييس والتثوير والتنوير للمجتمعات العربية والإسلامية، فالمصلحة أكثر من مشتركة بين دولة الإبادة وما يمثله الإعلام العربي المنحاز للإبادة. إنّها مصلحة واحدة، أقرب ما تُعبِّر عن حال واحد.

x.com/sariorabi