مدونات

المقاومة وقوانين حركة المجتمع

"مع أول فعل مقاوم ظهرت ردة فعل المحتل، فجرّم المقاوِمة في محكمةٍ كل أعضائها مصريون"
المقاومة حركة في اتجاه الفعل المقاوِم، وتقابلها حركة مضادّة من الجهة التي تواجهها المقاومة. وتقول نظرية الحركة: "لكل فعلٍ ردُّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضادٌّ له في الاتجاه". وببساطة؛ إذا كان الشعب المحتَل ساكنا وخاضعا ومنفذا لسياسات الاحتلال، وكان الاحتلال ينفّذ خططه بهدوء، فما الداعي لمبادرة المحتل بإبراز أنيابه وتوتير الأجواء المنسجمة؟

ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر يدير البلاد عبر إدارة محلية وفق خططه بهدوء وانسجام، حتى وقعت حادثة دنشواي عام 1906، فكانت أول حادثة مقاومة بعد خمسةٍ وعشرين عاما من الاحتلال. فحين اعتدى جنود الاحتلال على أهل القرية أثناء رحلة صيد حمام، دافع الأهالي بتلقائية عن أنفسهم، وسقط أحد الجنود الإنجليز ميتا بضربة شمس بعد فراره.

ومع أول فعل مقاوم ظهرت ردة فعل المحتل، فجرّم المقاوِمة في محكمةٍ كل أعضائها مصريون، وأصدرت أحكاما بالإعدام على أربعة من الأهالي، وبالسجن والجلد على نحو عشرين آخرين. ونفّذ الاحتلال الأحكام في ساحة عامة، لتكون عبرة لمن يفكر في مقاومة المحتل.

كان أول فعل مقاوِم للمحتل بمثابة حجرٍ ثقيل أُلقي في ماءٍ راكد، فتولدت عنه دوائر تأثير تجاوزت مكان الحجر. تحرّك مع المحتل أعوانه، وطالب المدعي العام، ممثل الحكومة المصرية، بإنزال أشد العقوبات على المتهمين. وتوجّه بكلامه في المحكمة إلى أكبر المتهمين سنّا (75 عاما) قائلا: "إن حسن محفوظ أقام الفتنة النائمة، فكدر صفو أمة بأسرها؛ إذ مضى علينا خمسة وعشرون عاما ونحن مع المحتلين في إخلاصٍ واستقامةٍ وأمانة، وقد أساء إلينا وإلى كل مصري. فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيمٍ عاقلٍ يعرف مستقبل أمته وبلاده". وأشار إلى حضور وفد من الأعيان جاءوا خجلين من الحادثة، ليدينوا تلك "الجريمة" ويثبتوا براءتهم من هذه التهمة.

كما تحركت الصحافة لتؤدي دورها في تأليب الرأي العام على هؤلاء الفلاحين الذين تجرؤوا على مقاومة الأسياد المحتلين. فذكرت جريدة المقطم المصرية أن الحريق الذي شبّ في ساحة تخزين المحصول لم يكن بسبب شرار بنادق جنود الاحتلال، وإنما بفعل الأهالي الذين أضرموا النار عمدا ليتهموا جنود الاحتلال! وأضافت أن القتيل الذي أطلق عليه الجنود النار وُجد مقتولا بضربة فأس من أحد الأهالي!

وما يثير الدهشة في وثائق المحاكمة كلمة محامي الدفاع، التي أظهرت مدى الهزيمة النفسية واحتقار الذات أمام المحتل؛ فقد قال محامي الدفاع محمد بك يوسف:

"وقعت هذه الحادثة في قرية صغيرة، والمتهمون فيها قوم طائشون جهلاء لا يدركون مسؤولية عملهم الهائل.. ولا أتصور أن الوقاحة وصلت بنا إلى أن نعتدي على جيش الاحتلال بسبب حمامة أو حمامات؛ إذ لم يُسمع عن العرب شيء من ذلك، فجيش الاحتلال يُكرَم حيث نزل".

هؤلاء الفلاحون البسطاء، الذين لم تتلوث فطرتهم بالمفاهيم التي عششت في رؤوس دوائر المنتفعين والمتعالمين وأدعياء التحضر، دفعوا ثمنا باهظا من دمائهم وحريتهم وتشويه صورتهم، وما جرّوه على أهلهم من ويلات، لأنهم قلّة تحركت في مجتمع راكد وخانع، لكنهم كانوا الشرارة التي فجّرت طاقات أمة بأكملها.

صارت قضيتهم على كل لسان، وارتفعت بها أصوات نخبة من الشعراء كحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وغيرهما ممن صاغوا المأساة في قصائد ومقالات وخطب تهز الوجدان. وتلقفها الزعيم السياسي الشاب مصطفى كامل، فألهب بها حماس الجماهير، فكانت مقاومة بضعة فلاحين بسطاء الشرارة الأولى التي أيقظت الوعي الشعبي، وأشعلت الغضب ضد المحتل، وامتد الغضب حتى اغتيال بطرس غالي، رئيس المحكمة. وظلت الشرارة تنمو حتى أشعلت نار ثورة شاملة على المحتل في عام 1919.

حادثة دنشواي نموذج كاشف لقوانين حركة المجتمع حين يطرق باب المقاومة؛ فكل فعل مقاوم، وإن بدا صغيرا، يُجبر الطغيان على إظهار وجهه القبيح، ويُحدث فرزا داخل الأمة بين من ينحازون للمحتل المستبد، وبين من يواجهونه بالمقاومة، وبين الفريقين طيفٌ واسع من المترددين والمثبطين والمتشككين والمغفلين.

ومن أهم قوانين الحركة أن شرارة المقاومة تكون حجرا ثقيلا في مجتمع راكد، وسرعان ما تُحدث دوائر من اليقظة والوعي ومزيدا من الأنصار. ولا يمكن لأحد أن يتنبأ أحد بمدى اتساع تلك الدوائر وما ستحدثه من تأثير؛ فقد تتأخر نتائجها، وقد تبلغ حد الطوفان الذي يأتي فجأة، فيقلب الموازين ويؤسس لعالم جديد. وليست النتيجة هي ما يشغل الإنسان الحرّ بقدر ما يشغله تموضُعه في المكان الصحيح.

ملاحظة: معلومات حادثة دنشواي الواردة في المقال منقولة عن مجلة "المجلات العربية"، عدد شباط/ فبراير 1908.