في حياة
الأمم
فرص نادرة يصنعها أشخاص استثنائيون، وقد لا تصادف تلك الفرص مجتمعات مهيئة
لاقتناصها، فتضيع الفرصة، ولا تعوض إلا بعد زمن طويل، وتاريخ الأمم زاخر بتلك
التجارب.
جاليليو صنع اللحظة الفارقة في مجتمع متخلف لم يدرك قيمة الحدث
التاريخي، فضيع على نفسه فرصة الانتقال السريع من التخلف إلى النهضة العلمية.
جاليليو
أثبت علميا مركزية الشمس، وأن الأرض تدور حولها، معارضا بذلك آراء أرسطو وما كان
مستقرا من أيام قدماء اليونان، وما كان مستقرا بمنزلة العقيدة الدينية عند الكنيسة
الكاثوليكية من أن الأرض هي مركز الكون.
ولذلك
حاربت الكنيسة فكرة جاليليو، واعتبرت نتيجة أبحاثه العلمية نوعا من الكفر، وحكمت
بحرمانه ومنع تداول كتبه، وتلقى الشعب هذه الأحكام بالبهجة والفرح، وتجمهروا في
الميادين للاحتفال بإحراق كتبه!
مجتمع عصر جاليليو، كما وصفه ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة، كان مجتمعا
متخلفا يؤمن بالسحر والشعوذة، والكنيسة التي كانت أحد أركان السلطة ثبتت تلك
الأفكار، فكان القساوسة يكتبون تعاويذ مختلفة يشتريها الناس لإزالة الآفات
والحشرات الضارة من الحقول، وأخرى لتهدئة الأعاصير في البحر، أو لتطهير المباني من
الأرواح الشريرة.. وفي عام 1604م أصدر البابا بول الخامس منشورا بهذه
الخدمات الكهنوتية مدفوعة الأجر.
كان ثمة
انسجام تام بين السلطة والشعب: سلطة توزع التعاويذ، وشعب يؤمن بالخرافة، بينما كان جاليليو ينظر من تلسكوبه إلى العالم الفسيح، يرى المستقبل البعيد،
يحلم بالخير لعالمه، يشق بمنظاره جدار الظلام والجهل والتخلف، يفعل ما يجب عليه
فعله، ويبذل أقصى جهده، ويستنزف كل طاقته لينقذ قومه من الجهل والتخلف، ويفتح لهم
أفقا جديدا للانعتاق، ولكنه اصطدم بموجة عاتية من الظلم والتخلف، أقعدته عن
استكمال مشروعه، وفي المقابل خسرت أوروبا قرونا جديدة من الاستمرار في مستنقع
تخلفها في العصور الوسطى.
ومن
الغرب
إلى الشرق ننتقل إلى تجربة أخرى ثرية من
الصين تُعرَف في تاريخها باسم "الحدث
الكبير"، ويُقصَد به تأسيس أسطول بحري ضخم سادت به الصين خطوط التجارة
البحرية من حدودها حتى الساحل الأفريقي الشرقي، ولم يدم سوى ثمانية وعشرين عاما
فقط. حدث هذا في أوائل عهد أسرة مينغ، وبعد ثلاث سنوات من تولي الإمبراطور تشينج
تزو سدة الحكم، حيث قرر إنشاء أسطول بحري وأسند تأسيسه وقيادته للقائد المسلم الفذ
تشنج خه؛ الذي ينتمي لقومية الهوي المسلمة، ويُعرَف في المصادر
العربية باسم حجي
محمود شمس الدين، وأصول أسرته من مدينة بخارى. أبحر الأسطول العظيم في المحيط
باتجاه الغرب لأول مرة عام 1405م، وقام بسبع رحلات كبرى امتدت لجنوب شرق آسيا
والسواحل العربية وصولا للساحل الأفريقي، ليجعل من الصين خلال ثمانية وعشرين عاما
قوة بحرية عظمى.
وفجأة بعد
تولي الإمبراطور الصيني الجديد رينتزونغ أصدر مرسوما يقضي بعودة الأسطول، ووقف
إبحاره نهائيا، وإغلاق جميع أماكن تصنيع وصيانة السفن، لينهي بذلك تلك التجربة
الفريدة في التاريخ الصيني عام 1433.
اتخذ رينتزونغ
قراره بتأثير حاشيته البيروقراطية المؤمنة بالتعاليم الكونفوشيوسية التي اعتبرت
تلك الرحلات ترفا غير ضروري يهدر موارد الدولة، ورأت أن التركيز يجب أن يكون على
الزراعة والحياة الصينية التقليدية لأمة ترى في مساحتها وعدد سكانها ما يكفي
للانكفاء على ذاتها، ولم يكتفوا بذلك بل جرى تدمير ما تم إنجازه من سفن في محاولة
لمنع إعادة إحياء مشروع الأسطول البحري.
وبعد
إجهاض هذه التجربة بنحو ثمانين عاما، بدأت أوروبا رحلاتها البحرية بقيادة كولومبوس
وماجلان وفاسكو دي جاما، التي مهدت لسيطرة الحضارة الغربية على العالم منذ القرن
السادس عشر وحتى الآن.
وبذلك
ضاعت الفرصة التاريخية على الصين، وبدلا من أن يكون لها السبق غرقت في الانغلاق
والتخلف لأكثر من خمسة قرون.
قصة الفرص
الضائعة والأشخاص الاستثنائيون الذين يظهرون في فترات تخلف مجتمعاتهم، قصة مكررة
في تاريخ البشر:
غَزَلتُ
لَهُم غَزلا رَقِيقا فَلَم أَجِد لِغَزلِيَ
نَسَّاجا فَكَسَّرتُ مِغزِلي
وأمتنا
اليوم ومعها العالم أجمع أمام حدث استثنائي، صنعته مقاومة وشعب استثنائي، يحملان
لنا فرصة نادرة؛ فإما أن نكون على مستوى الحدث، أو نعيد إنتاج مأساة الفرص
الضائعة، ونترك للتاريخ أن يسجل أننا كسّرنا مغازلنا بأيدينا.