قضايا وآراء

مصر ضمن الـ10 الكبار اقتصاديا: رؤية إسلامية لنهضة اقتصادية شاملة (7)

"لا يمكن لاقتصاد أن ينمو ويزدهر وسط متاهات إدارية معقدة، ولا يمكن للاستثمارات أن تتدفق في ظل بيروقراطية خانقة"- CC0
7- إصلاح المنظومة الإدارية لتحفيز النمو الاقتصادي

في رحلة مصر نحو مصاف أكبر 10 اقتصادات عالمية، تقف البيروقراطية الإدارية كالحارس العنيد على أبواب النهضة.

تخيل أن مستثمرا يريد إنشاء مصنع في مصر، فيجد نفسه أمام 47 ختما و23 موافقة و8 أشهر انتظار! النتيجة؟ يهرب بأمواله إلى بلد آخر ينهي إجراءاته في أسبوع واحد.

ضمن خارطة طريق النهضة الاقتصادية، يأتي الإصلاح المؤسسي والإداري كركيزة أساسية لا يمكن تجاهلها. فلا يمكن لاقتصاد أن ينمو ويزدهر وسط متاهات إدارية معقدة، ولا يمكن للاستثمارات أن تتدفق في ظل بيروقراطية خانقة.

السؤال المحوري: كيف نحول جهازنا الإداري من عقبة أمام النمو إلى محرك للنهضة؟ وكيف نبني إدارة حكومية تجمع بين أصالة القيم الإسلامية وحداثة الأدوات التقنية، لتكون عونا للمستثمرين وخدمة للمواطنين؟

كيف نحول جهازنا الإداري من عقبة أمام النمو إلى محرك للنهضة؟ وكيف نبني إدارة حكومية تجمع بين أصالة القيم الإسلامية وحداثة الأدوات التقنية، لتكون عونا للمستثمرين وخدمة للمواطنين؟

الإجابة تكمن في ثورة إدارية حقيقية تستند إلى مبادئ العدالة والشفافية والإحسان، وتوظف أحدث التقنيات لبناء إدارة تليق بحضارة مصر وطموحات شعبها نحو العالمية.

في هذا المقال، نسافر عبر رحلة تحول شاملة، تبدأ بتشخيص واقعنا وتحديد مواطن الخلل بدقة، وتنهي بتحديد مؤشرات النجاح وآليات قياس الأداء لضمان تحقيق التحول المنشود.

أولا: تشخيص الوضع الحالي للمنظومة الإدارية

1- تحليل نقاط الضعف في الجهاز الإداري المصري

الصورة واضحة أمام كل من تعامل مع الجهاز الإداري المصري، تضخم هيكلي يؤدي إلى تداخل الاختصاصات وغموض المسؤوليات. نجد أكثر من جهة تتعامل مع نفس الملف، مما يخلق دوائر مفرغة من التحويلات بين المكاتب تستنزف وقت المواطن والمستثمر.

ضعف التدريب والتأهيل يظهر جليا في مستوى الخدمة المقدمة، حيث نفتقر لبرامج تطوير مستمرة تواكب متطلبات العصر. والأخطر من ذلك غياب الربط بين الأداء والمكافآت، مما يقلل الدافعية للتميز ويرسخ ثقافة الحد الأدنى في العمل.

الاعتماد على الطرق التقليدية في عصر التحول الرقمي يجعل معاملاتنا بطيئة ومعقدة، بينما العالم يتسارع نحو الحلول الذكية والفورية. وهذا يتعارض مع المبدأ الإسلامي في مواكبة العصر والاستفادة من كل ما ينفع الناس.

2- المؤشرات الدولية تضعنا أمام مرآة صادقة تعكس حجم التحدي والفرصة معا

- في مجال ممارسة الأعمال: تحتل مصر المرتبة 114 من أصل 190 دولة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال حسب آخر تقرير للبنك الدولي، رقم يعكس تعقيد الإجراءات وطول المدة اللازمة لإنجاز المعاملات مقارنة بالمعايير الدولية.

- في مجال الابتكار: تحتل مصر المرتبة 86 من أصل 133 دولة في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024 حسب المنظمة العالمية للملكية الفكرية.

- في مجال الحكومة الإلكترونية: بينما تحتل الدنمارك المرتبة الأولى عالميا بدرجة 0.9847 من 1 في مؤشر تطوير الحكومة الإلكترونية، تسعى مصر للحاق بهذا النموذج من خلال مبادرات التحول الرقمي الجارية.

- في مجال التنافسية: حصلت مصر على 54.54 نقطة من 100 في مؤشر التنافسية العالمي لعام 2019 قبل توقف هذا المؤشر، مما يعكس فجوة تنافسية تحتاج لجهود مضاعفة.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات في تقارير دولية، بل واقع يعيشه الاقتصاد المصري يوميا. البيروقراطية المفرطة تعمل كـضريبة خفية تدفعها كل الأطراف، فالوقت الذي يقضيه المستثمر في دهاليز الإجراءات هو وقت مسروق من الإنتاج والابتكار.

تراجع مصر نسبيا في هذه المؤشرات يعني فقدان فرص استثمارية حقيقية. فبينما تتسابق الدول لتبسيط إجراءاتها وجذب الاستثمارات، نجد أنفسنا في سباق مع الزمن لتعويض ما فات. فهروب الاستثمارات إلى بيئات أكثر مرونة يحرم الاقتصاد المصري من فرص نمو حقيقية، ويهدر الموارد والطاقات في وقت نحن أحوج ما نكون لكل جنيه استثمار وكل فرصة عمل.

تراجع مصر نسبيا في هذه المؤشرات يعني فقدان فرص استثمارية حقيقية. فبينما تتسابق الدول لتبسيط إجراءاتها وجذب الاستثمارات، نجد أنفسنا في سباق مع الزمن لتعويض ما فات. فهروب الاستثمارات إلى بيئات أكثر مرونة يحرم الاقتصاد المصري من فرص نمو حقيقية، ويهدر الموارد والطاقات في وقت نحن أحوج ما نكون لكل جنيه استثمار وكل فرصة عمل

3- رصد التحديات المعاصرة

ثورة التوقعات هي أول التحديات. فالمواطن اليوم خاصة الشباب، اعتاد على الخدمات السريعة والشفافة في القطاع الخاص، وبات يتوقع نفس المستوى من الحكومة.

التحول الرقمي يفرض تحديا مزدوجا: تطوير الأنظمة والبنية التحتية، وفي نفس الوقت تأهيل آلاف الموظفين للتعامل مع التكنولوجيا الجديدة وتغيير عقليتهم حول طبيعة العمل.

المنافسة الإقليمية والعالمية لم تعد ترفا بل ضرورة حتمية، فالمستثمر اليوم يقارن بين دولة وأخرى ليس فقط في التكلفة، بل في سهولة الإجراءات وسرعة الخدمة.

كما إن التحول الإداري الحقيقي يتطلب استثمارات ضخمة قد تبدو مرهقة في البداية، لكنها استثمار حقيقي في مستقبل الوطن. فتكلفة تدريب مئات الآلاف من الموظفين على المهارات الرقمية الجديدة، وتطوير الأنظمة التكنولوجية، وإعادة تصميم الإجراءات تتطلب موازنات إضافية قد تبدو باهظة للخزانة العامة.

ولكن المنظور الإسلامي الحكيم يعلمنا أن "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، فالتكلفة الحقيقية تكمن في استمرار الوضع الحالي، وكل يوم تأخير للاستثمار يعني هروب استثمارات بمليارات الجنيهات، وضياع فرص عمل لآلاف الشباب، وتراجع تنافسية الاقتصاد المصري إقليميا وعالميا.

كما أن عوائد التحسن ستبدأ في الظهور خلال العامين الأولين، حيث ستوفر الرقمنة ملايين الجنيهات من تكاليف الورق والطباعة والوقت المهدر، وستجذب الاستثمارات الجديدة التي تعوض بكثير تكلفة الإصلاح.

أولى خطوات الحكمة في الإصلاح هي المصارحة مع الذات، والتشخيص الصادق المدعوم بالبيانات الدقيقة هو نصف الطريق نحو العلاج الفعال والقفزة المطلوبة نحو مصاف الدول العشر الكبرى اقتصاديا.

ثانيا: استراتيجيات إصلاح المنظومة الإدارية

1- المرتكزات الإسلامية للإدارة الحديثة

إن بناء إدارة حكومية قادرة على قيادة مصر نحو مصاف الدول العشر الكبرى يتطلب أسسا راسخة؛ تتجاوز النقل الأعمى للنماذج الغربية إلى بناء نموذج أصيل يستمد قوته من القيم الإسلامية الخالدة.

فالعدل الإداري ليس مجرد شعار أخلاقي، بل ضرورة اقتصادية حتمية. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ" (النساء: 135)، فالعدالة في توزيع الخدمات وسرعة البت في المعاملات وتطبيق القوانين دون تمييز؛ يخلق بيئة استثمارية جاذبة وتعزز ثقة المواطنين في النظام.

والشورى في القرارات التطويرية تحول الإدارة الحكومية من نموذج هرمي جامد إلى منظومة تفاعلية ذكية، وإشراك الموظفين في تطوير الإجراءات وحل المشكلات يضمن جودة القرارات ويقلل مقاومة التغيير، كما يستفيد من الخبرات الميدانية لمن يتعاملون مع الواقع يوميا.

والأمانة والمسؤولية ترسخان الضمير المهني الذي يغني عن ألف نظام رقابة. يقول النبي ﷺ: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (متفق عليه)، ويقول أيضا: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" (ابن خزيمة). الموظف الذي يدرك أنه مؤتمن على المال العام ومصالح الناس يعمل بروح مختلفة تماما عن الموظف الذي يراها مجرد وظيفة.

والإحسان في الأداء يعني تجاوز مفهوم "إنجاز المطلوب" إلى السعي للامتياز. يقول النبي ﷺ: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" (الطبراني). هذا المبدأ يحول الخدمة الحكومية من مجرد إجراءات روتينية إلى تجربة متميزة يفخر بها المواطن والمستثمر.

هذه المرتكزات الأربعة عندما تتحول من شعارات إلى ممارسات يومية، تخلق إدارة حكومية قادرة على أن تكون شريكا حقيقيا في التنمية الاقتصادية، وليس عقبة أمامها.

2- إصلاح الثقافة المؤسسية والتحول السلوكي
في قلب الأزمة الإدارية المصرية تكمن أزمة ثقافية عميقة تحتاج لعلاج جذري. فالمشكلة الحقيقية ليست في غياب الأنظمة أو ضعف التقنيات، بل في الثقافة السائدة التي تشكل وعي الموظفين وتحدد مستوى أدائهم اليومي

في قلب الأزمة الإدارية المصرية تكمن أزمة ثقافية عميقة تحتاج لعلاج جذري. فالمشكلة الحقيقية ليست في غياب الأنظمة أو ضعف التقنيات، بل في الثقافة السائدة التي تشكل وعي الموظفين وتحدد مستوى أدائهم اليومي.

رحلة التشخيص تكشف عن أمراض متجذرة: فالاتكالية تتفشى حين ينتظر الموظف التوجيهات التفصيلية لأبسط المهام، متناسيا قول النبي ﷺ: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف" (الطبراني)، والمحسوبية تفسد العدالة وتقتل الكفاءة، وتناقض تحذير النبي الكريم: "من ولي من أمور المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".

وبينما تنتشر اللامبالاة تجاه المصلحة العامة من فقدان الإحساس بالمسؤولية، يؤكد الإسلام أن "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم". أما مقاومة التغيير فتنبع من الخوف من المجهول وتفضيل الوضع الراهن، والتغيير للأحسن لن يكون إلا إذا غير الناس من أنفسهم، فالله سبحانه "..لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11).

طريق التحول يبدأ بثورة قيمية هادئة تعيد تشكيل وعي الموظف العام. فترسيخ ثقافة الإتقان يتطلب ربط الأداء بالتقييم والترقية، مستلهمين قول النبي ﷺ"إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (مسلم). هذا الإحسان في العمل الإداري يعني التفوق المستمر وليس مجرد الأداء المقبول.

وتتطلب آليات المساءلة الفعالة توازنا دقيقا بين العدالة والحكمة، مستوحين من عمر بن الخطاب حين قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". فالمساءلة الحقيقية تحرر الطاقات وتطلق الإبداع، بدلا من أن تكبلها بالخوف والحذر المفرط.

روح الخدمة المتميزة تنمو حين يدرك الموظف أن عمله رسالة وليس مجرد وظيفة، متذكرا قول النبي ﷺ: "خير الناس أنفعهم للناس" (الطبراني)، "ولأن أمشي في حاجة أخي أحب إلي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهرا" (الطبراني). وتستكمل هذه الروح بتقدير قيمة الوقت كمورد لا يُعوض، فوقت المواطن المهدر في الإجراءات البيروقراطية خسارة اقتصادية حقيقية، والنبي حذر من ذلك: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (البخاري).

برامج التغيير الثقافي تحتاج لنهج شمولي ومتدرج: تبدأ بالبرامج التعليمية المتخصصة التي تجمع بين التأهيل المهني والتربية القيمية، وتستمر بتطوير نماذج قدوة من الموظفين المتميزين وتكريمهم علنا، فالناس يتأثرون بالقدوة أكثر من الخطب. وتكتمل البرامج بأنظمة حوافز عادلة تكافئ الإنجاز الحقيقي، مع آليات محاسبة واضحة تطبق على الجميع دون استثناء.

الهدف النهائي هو بناء ثقافة مؤسسية جديدة تقوم على ثلاث ركائز أساسية: أولا، ثقافة الخدمة المتميزة كعبادة، حيث يدرك كل موظف أن خدمته للمواطنين طاعة لله قبل أن تكون واجبا وظيفيا. ثانيا، ثقافة الشفافية والنزاهة المطلقة، مستلهمين قول أبي بكر الصديق: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني". ثالثا، ثقافة التعلم المستمر والابتكار، حيث يصبح كل تحدٍ فرصة للتطوير، تطبيقا لقوله تعالى: "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما".

3- الاستراتيجيات التطويرية العملية

بعد رسم الأسس النظرية ومعالجة الثقافة المؤسسية، تأتي اللحظة الحاسمة للتحول من الرؤى إلى الممارسات العملية. هنا تتبلور الاستراتيجيات التي ستحول الإدارة المصرية من عائق أمام النمو إلى محرك للنهضة.

- إعادة الهيكلة المؤسسية تنطلق من مبدأ التخصص والكفاءة الذي أرساه الإسلام منذ أربعة عشر قرنا. فحين ولّى النبي ﷺ خالد بن الوليد قيادة الجيش، ومعاذ بن جبل تعليم القرآن، وعتاب بن أسيد إدارة مكة، كان يطبق مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب". هذا يتطلب اليوم مراجعة جذرية للهياكل التنظيمية الحالية، وإلغاء التداخلات المعيقة، وتجميع الوظائف المترابطة في كيانات متخصصة تضمن وضوح المسؤوليات وسرعة اتخاذ القرارات.

- معالجة البيروقراطية تستند إلى مبدأ "لا ضرر ولا ضرار" الذي وضعه النبي الكريم كقاعدة لتنظيم الحياة الاجتماعية. كل إجراء إداري يجب أن يخضع لسؤال جوهري: هل يحقق مصلحة حقيقية أم يسبب ضررا للمواطنين دون مبرر؟ هذا المبدأ يفرض مراجعة شاملة لجميع الإجراءات الحالية، وإلغاء كل ما هو مُعطل أو مُضر، وتبسيط المعقد منها، ووضع حدود زمنية صارمة لإنجاز كل معاملة.

- التحول الرقمي ليس مجرد تقنية بل أداة لتحقيق العدالة الإدارية وتيسير المعاملات على نحو يحقق مقصد الشريعة في رفع الحرج عن الناس. فالرقمنة تضمن المساواة في الوصول للخدمات دون تمييز أو واسطة، وتوفر الشفافية الكاملة في مراحل المعاملة وأسباب التأخير، وتحقق السرعة والدقة في الإنجاز. كما تتيح للمواطن متابعة معاملته من منزله، مما يوفر الوقت والجهد والمال، ويحقق مبدأ "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ".

- تفويض الصلاحيات يجسد مبدأ "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" في إطار إداري معاصر. فبدلا من التصاعد الهرمي المعقد الذي يستنزف الوقت ويعطل القرارات، يصبح كل موظف راعيا مسؤولا في نطاق اختصاصه، قادرا على اتخاذ القرارات المناسبة دون الحاجة لموافقات متعددة. هذا التفويض يتطلب تحديد الصلاحيات بوضوح، ووضع معايير واضحة لاتخاذ القرارات، وتطوير آليات متابعة ومساءلة تضمن الاستخدام الأمثل للصلاحيات المفوضة.

هذه الاستراتيجيات الأربع تتكامل لتشكل منظومة إدارية متطورة تحافظ على الهوية الإسلامية وتواكب متطلبات العصر. وحين تطبق بشكل متزامن ومنهجي، ستحول الإدارة المصرية خلال خمس سنوات من نموذج بيروقراطي معطل إلى شريك فعال في دفع مصر نحو مصاف الدول العشر الكبرى اقتصاديا.

الأمر لا يحتاج لمعجزات أو موارد خرافية، بل يحتاج إرادة سياسية صادقة وخطة تنفيذية محكمة، فالتجارب العالمية تؤكد أن التحول الإداري ممكن ومحقق لمن عزم على السير في هذا الطريق.

ثالثا: النماذج والتجارب الناجحة وكيفية الاستفادة منها

التاريخ والواقع المعاصر يقدمان خزانة غنية من التجارب الناجحة في الإصلاح الإداري، تؤكد أن التحول من إدارة معطلة إلى إدارة محفزة للنمو ليس مجرد حلم، بل واقع حققته أمم وحضارات متعددة عبر التاريخ.

الإدارة في عهد الخلفاء الراشدين تقدم نموذجا متكاملا للحوكمة الرشيدة التي تجمع بين الكفاءة والعدالة، فأبو بكر الصديق أسس مبدأ المساءلة العامة حين قال: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"، مرسيا قاعدة الشفافية التي تفتقر إليها الإدارات الحديثة.

وعمر بن الخطاب طور نظام الرقابة الإدارية من خلال تعيين عماله بناء على الكفاءة وليس القرابة، ومحاسبتهم دوريا على أدائهم، حتى أنه كان يسأل الرعية عن سلوك الولاة ويحاسبهم على أي تقصير.

نظام الدواوين الذي أسسه عمر بن الخطاب يمثل ثورة إدارية حقيقية لا تزال مبادئها صالحة حتى اليوم. فقد قسم الإدارة إلى دواوين متخصصة (ديوان الجند، ديوان الخراج، ديوان بيت المال..)، وضع لكل منها اختصاصات محددة ومسؤوليات واضحة، ونظم العلاقة بينها بما يضمن التكامل وليس التداخل. هذا النموذج يقدم إجابة عملية لمشكلة التضخم الإداري والتداخل في الاختصاصات التي تعاني منها الإدارة المصرية اليوم.

ونظام الحسبة يقدم نموذجا متطورا للرقابة الإدارية والاجتماعية، حيث كان المحتسب يراقب جودة الخدمات العامة ومدى التزام الموظفين بواجباتهم، ويحاسب المقصرين ويكافئ المحسنين. هذا النظام يؤكد أن الرقابة في الإسلام ليست قمعية بل تطويرية، تهدف لضمان جودة الأداء وحماية حقوق المواطنين.

وفي العصر الحديث تجارب ملهمة في تحويل الإدارات الحكومية من عوائق إلى محركات للنمو. هناك دول آسيوية نجحت في تحويل إداراتها من بيروقراطيات فاسدة ومعقدة إلى نماذج عالمية في الكفاءة والشفافية خلال عقود قليلة. والسر لم يكن في استيراد نماذج جاهزة، بل في تطوير حلول محلية تراعي الثقافة والظروف الخاصة لكل دولة.

والتجارب الإسلامية الناجحة تقدم نماذج ملهمة للتطبيق. ماليزيا حولت إدارتها من نموذج استعماري معقد إلى إدارة رقمية متطورة خلال عقدين، مع الحفاظ على القيم الإسلامية. الإمارات نجحت في بناء إدارة حكومية تحتل المراكز الأولى عالميا في السرعة والشفافية. تركيا طورت نظاما إداريا يجمع بين الكفاءة الأوروبية والهوية الإسلامية. إندونيسيا حققت نقلة إدارية كبيرة رغم التحديات الجغرافية والثقافية الهائلة.

والدروس الرئيسية من هذه التجارب تتلخص في ثلاث نقاط:

- الإرادة السياسية هي المحرك الأساسي، فكل التجارب الناجحة بدأت بقرار سياسي واضح من القيادة العليا بضرورة التغيير.

- التدرج أفضل من الصدمة، فالتحول تم عبر مراحل مدروسة تراعي قدرة المؤسسات على الاستيعاب ومقاومة المجتمع للتغيير.

- الاستثمار في البشر أولوية قصوى، فجميع هذه الدول بدأت بتطوير قدرات موظفيها قبل تطوير الأنظمة والتقنيات.

والتطبيق المصري يمكن أن يبدأ بـمشاريع تجريبية في وزارات محددة تطبق النموذج الجديد، ثم التوسع التدريجي بناء على النتائج.

رابعا: من الرؤية إلى الواقع (خطة تنفيذ)

المرحلة الأولى: (عامان) بناء الأسس تركز على إعداد البنية التحتية للتحول. تطوير القوانين واللوائح اللازمة للإصلاح، وتدريب الكوادر القيادية على المفاهيم الجديدة، وإطلاق مشاريع تجريبية في قطاعات محددة لاختبار النماذج المقترحة.

المرحلة الثانية: (4 أعوام) التطبيق التدريجي، بتوسيع التجربة وتعميم النماذج الناجحة. رقمنة الخدمات الأساسية، وإعادة هيكلة المؤسسات وفق النموذج الجديد، وتطبيق أنظمة الحوافز والمساءلة الجديدة. هذه المرحلة تتطلب صبرا ومثابرة، تطبيقا لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون".

المرحلة الثالثة: التطوير والاستدامة تهدف لترسيخ النموذج الجديد وضمان استمراريته. تقييم شامل للنتائج المحققة مقارنة بالأهداف الموضوعة، وتطوير مستمر للخدمات والإجراءات بناء على احتياجات المستفيدين، وبناء آليات التطوير الذاتي التي تضمن التحسن المستمر دون الحاجة لتدخل خارجي.

قياس الأداء
مصر تملك كل المقومات: الخبرات البشرية، والتراث الحضاري، والموقع الاستراتيجي، وما نحتاجه هو ترجمة هذه المقومات إلى خطة عمل واضحة ومحددة المراحل

"وما كان الله ليضيع إيمانكم" (البقرة: 143)، والعمل الصالح لا يضيع إذا قُيس بمعايير صحيحة وتُوبع بآليات دقيقة. فالتحول الإداري المنشود لن يتحقق بالنوايا الطيبة وحدها، بل يحتاج لمنظومة متكاملة من القياس والمتابعة والتقييم تضمن تحويل الخطط إلى واقع ملموس.

وتمثل مؤشرات الأداء التالية البوصلة الرئيسة لمتابعة التنفيذ للوصول لتحقيق الرؤية المنشودة:

- مؤشرات الكفاءة التشغيلية تقيس مدى نجاح الإدارة في تحقيق أهدافها الأساسية. متوسط زمن إنجاز المعاملات يجب أن ينخفض تدريجيا ليصل إلى المعايير العالمية، ونسبة المعاملات المنجزة إلكترونيا يجب أن ترتفع لتصل إلى 90 في المئة خلال خمس سنوات. عدد الخطوات المطلوبة لإنجاز كل خدمة يجب مراجعته وتقليصه باستمرار، تطبيقا لمبدأ "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ".

- مؤشرات رضا المستفيدين تقيس مدى نجاح الإدارة في خدمة المواطنين والمستثمرين. درجة الرضا العام عن الخدمات الحكومية يجب أن ترتفع من خلال استطلاعات دورية، وعدد الشكاوى ونوعيتها يوفر مؤشرا مهما على مواطن الخلل. معدل تكرار زيارة المواطن لإنجاز نفس المعاملة يجب أن يقترب من الصفر، فتكرار الزيارات يعني هدر الوقت والجهد للمواطن والدولة معا.

- مؤشرات التطوير المؤسسي تقيس مدى نجاح الإدارة في تطوير قدراتها الذاتية. نسبة الموظفين المدربين على المهارات الجديدة، وعدد المبادرات التطويرية المقترحة من الموظفين أنفسهم، ومعدل الاحتفاظ بالكفاءات في الجهاز الإداري. هذه المؤشرات تعكس مدى تحول الثقافة المؤسسية من ثقافة الجمود إلى ثقافة التطوير المستمر.

وفي الختام، فإن الطريق إلى مصاف الدول العشر الكبرى اقتصاديا يمر حتما عبر إدارة حكومية متميزة. فالإدارة ليست مجرد آلة بيروقراطية، بل شريك استراتيجي في التنمية، قادر على أن يكون محركا للنمو أو عقبة في طريقه.

المنهج الإسلامي الذي عرضناه ليس ترفا فكريا، بل ضرورة عملية تجمع بين أصالة القيم وحداثة الأدوات. والعدالة والشورى والأمانة والإحسان ليست مجرد مفاهيم أخلاقية، بل استراتيجيات تنافسية حقيقية.

التجارب الإسلامية الناجحة في ماليزيا والإمارات وتركيا تؤكد أن التحول ممكن ومحقق لمن امتلك الإرادة والصبر.

مصر تملك كل المقومات: الخبرات البشرية، والتراث الحضاري، والموقع الاستراتيجي، وما نحتاجه هو ترجمة هذه المقومات إلى خطة عمل واضحة ومحددة المراحل. مصر قادرة وتستحق وستصل إلى مصاف الدول العشر الكبرى، شرط أن نبدأ بجدية وإخلاص. "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" (النجم: 39)، والسعي الصادق لا يضيع أبدا.