قضايا وآراء

مصر ضمن الـ 10 الكبار اقتصادياً.. رؤية إسلامية لنهضة اقتصادية شاملة (11)

التراث الإسلامي المصري ـ من القاهرة الإسلامية إلى المساجد التاريخية إلى المخطوطات الإسلامية ـ يمثل قوة ناعمة مزدوجة. فهو يؤثر في المسلمين كرمز لعظمة حضارتهم، ويؤثر في غير المسلمين كنموذج للتسامح والتعايش الحضاري.
11 ـ الدبلوماسية الاقتصادية والقوة الناعمة

عندما نزلت الطائرة الماليزية في مطار القاهرة عام 2019، لم تكن تحمل مسؤولين عاديين. كانت تحمل وفداً من كبار المستثمرين المسلمين يبحثون عن استثمارات حلال تتوافق مع قيمهم الإسلامية. لكن المفاجأة كانت أنهم لم يتوجهوا إلى مصر.. بل إلى دبي! لماذا؟

الإجابة مؤلمة: مصر لا تعرف كيف تتحدث بلغة العالم اقتصادياً!

علما بأن مصر تملك أعظم قوة ناعمة إسلامية في العالم، لكنها لا تعرف كيف توظفها اقتصادياً! تخيل معي الأزهر الشريف الذي يُعتبر أعلى مرجعية دينية لـمليار ونصف مسلم، والقاهرة التي تضم أكبر تراث معماري إسلامي في العالم، ومصر التي حملت لواء الحضارة الإسلامية لأكثر من ألف عام.. أليس هذا أقوى رأس مال حضاري يمكن لأمة أن تملكه؟

بينما تعتمد القوى الاقتصادية الكبرى على مزايا تنافسية يمكن تقليدها أو منافستها، مصر تملك شيئاً فريداً ولا يُكرر، المرجعية الدينية والحضارية لأكبر تجمع ديني في العالم. هذه ليست مجرد ميزة، بل سلاح استراتيجي يمكن توظيفه لخلق علاقات اقتصادية مميزة ومستدامة.
لكن بينما تستثمر ماليزيا في هويتها الإسلامية لتصبح مركزاً للتمويل الإسلامي، وتوظف الإمارات قيمها العربية لجذب استثمارات الأثرياء المسلمين، وتبني تركيا جسوراً اقتصادية مع العالم الإسلامي عبر تراثها العثماني.. تقف مصر مكتوفة الأيدي أمام كنزها الإسلامي المدفون!

فكيف يمكن للأزهر أن يصبح قوة اقتصادية ناعمة تفتح أسواق العالم الإسلامي؟ وكيف نحول القيم الإسلامية من تراث نفتخر به إلى ميزة تنافسية تجذب المليارات؟ وكيف نقود تحالفاً اقتصادياً إسلامياً يضعنا في قلب خريطة الاقتصاد العالمي؟

هذا ما نكشفه اليوم في رؤيتنا لدبلوماسية اقتصادية إسلامية تُعيد مصر إلى مكانتها الحضارية والاقتصادية اللائقة بها.

أهمية الدبلوماسية والقوة الناعمة اقتصاديا

الدبلوماسية مهمة لأنها تستثمر في أقوى ما تملكه مصر ـ قيادتها الروحية للعالم الإسلامي ـ وتحوله من مجرد مكانة رمزية إلى قوة اقتصادية حقيقية. إنها تفتح أمام مصر عالماً بأكمله كان مهملاً، عالم المليار ونصف مسلم الذين يبحثون عن قيادة اقتصادية تفهم قيمهم وتوجهاتهم. والأهم من ذلك أن هذه الاستراتيجية تبني على ميزة تنافسية طبيعية لا تملكها أي دولة أخرى في العالم.

فبينما تعتمد القوى الاقتصادية الكبرى على مزايا تنافسية يمكن تقليدها أو منافستها، مصر تملك شيئاً فريداً ولا يُكرر، المرجعية الدينية والحضارية لأكبر تجمع ديني في العالم. هذه ليست مجرد ميزة، بل سلاح استراتيجي يمكن توظيفه لخلق علاقات اقتصادية مميزة ومستدامة.

أما الآثار المتوقعة فهي تحولية بكل معنى الكلمة. ستجد مصر نفسها فجأة في مركز شبكة اقتصادية ضخمة تربطها بأسواق واعدة من إندونيسيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن تركيا شمالاً إلى نيجيريا جنوباً. الاستثمارات الإسلامية التي تبحث عن بيئة آمنة ومتوافقة مع الشريعة ستتدفق على مصر، والسياحة الدينية والثقافية ستحقق طفرة هائلة، والصادرات المصرية ستجد طريقها بسهولة إلى أسواق جديدة تقدر المنتج المصري الإسلامي.

لكن الأثر الأعمق والأطول مدى هو أن مصر ستتحول من دولة تبحث عن مكانها في النظام الاقتصادي العالمي، إلى دولة تصنع مكانها بقوة وثقة. ستكتسب استقلالية اقتصادية حقيقية تحررها من الاعتماد المفرط على أي قوة واحدة، وستصبح محوراً اقتصادياً لا يمكن تجاهله في حسابات القوى العالمية الكبرى.

والأهم من كل ذلك، أن مصر ستستعيد دورها الحضاري الطبيعي كقائدة للعالم الإسلامي، لكن هذه المرة بأدوات اقتصادية حديثة وفعالة. إنها فرصة لإعادة كتابة التاريخ، وللبرهنة على أن القيم الإسلامية والحضارة الأصيلة يمكن أن تكون أقوى محرك للتقدم الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين.

المقومات الحضارية المصرية والقوة الناعمة الاقتصادية

هناك لحظة فارقة في تاريخ كل حضارة، عندما تدرك أن تراثها ليس مجرد ماضٍ تفتخر به، بل قوة اقتصادية تستثمرها.

مصر لا تملك فقط مقومات حضارية عريقة، بل تملك قوة ناعمة اقتصادية نادرة ومؤثرة تنبع من هذه المقومات وتتجاوزها لتصل إلى قلوب وعقول مليارات البشر حول العالم.

الأزهر الشريف ليس مجرد جامعة دينية أو مؤسسة تعليمية، بل هو قوة ناعمة اقتصادية هائلة تؤثر في قرارات مليار ونصف مسلم حول العالم. عندما يُصدر الأزهر فتوى حول التمويل الإسلامي، أو يدعم منتجاً حلالاً، أو يوجه المسلمين نحو وجهة استثمارية معينة، فإن تأثيره الاقتصادي يتجاوز حدود الجغرافيا والقارات.

تخيل لو أن الأزهر أصبح المرجعية العالمية للاقتصاد الإسلامي، يُصدر شهادات الحلال للمنتجات، ويوجه تدفقات رؤوس الأموال الإسلامية، ويقود حملات عالمية لدعم الاستثمار المتوافق مع الشريعة. هذا التأثير الروحي يمكن أن يترجم مباشرة إلى قوة اقتصادية تجذب مليارات الدولارات.

الأزهر الشريف ليس مجرد جامعة دينية أو مؤسسة تعليمية، بل هو قوة ناعمة اقتصادية هائلة تؤثر في قرارات مليار ونصف مسلم حول العالم. عندما يُصدر الأزهر فتوى حول التمويل الإسلامي، أو يدعم منتجاً حلالاً، أو يوجه المسلمين نحو وجهة استثمارية معينة، فإن تأثيره الاقتصادي يتجاوز حدود الجغرافيا والقارات.
الحضارة الفرعونية ليست مجرد آثار تاريخية، بل هي مغناطيس عالمي يجذب ملايين السياح من كل القارات والثقافات. الأهرامات وأبو الهول والمعابد الفرعونية تمارس قوة جذب اقتصادية تتجاوز مجرد السياحة لتشمل الاستثمار في البنية التحتية، والصناعات المرتبطة، والخدمات المساندة.

التراث الإسلامي المصري ـ من القاهرة الإسلامية إلى المساجد التاريخية إلى المخطوطات الإسلامية ـ يمثل قوة ناعمة مزدوجة. فهو يؤثر في المسلمين كرمز لعظمة حضارتهم، ويؤثر في غير المسلمين كنموذج للتسامح والتعايش الحضاري.

هذا التراث يمكن أن يُحول مصر إلى مركز عالمي للحوار الحضاري، تستقطب المؤتمرات الدولية والمنظمات العالمية والمشاريع الثقافية الكبرى. كل هذا النشاط الثقافي والحضاري يترجم إلى حركة اقتصادية ضخمة.

الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمصر ليس مجرد نقطة على الخريطة، بل هو قوة ناعمة جيوسياسية تجعل من مصر شريكاً لا غنى عنه لكل القوى العالمية. قناة السويس لا تمرر فقط السفن، بل تمرر نفوذاً واستقلالية تُكسب مصر قوة تفاوضية استثنائية.

النجوم المصريون العالميون في العلم والثقافة والأدب والرياضة يمثلون قوة ناعمة استثنائية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.  العلماء والمفكرون المصريون في جامعات العالم، والأطباء المصريون الذين يقودون مستشفيات عالمية، والمهندسون المصريون الذين يبنون مشاريع في القارات الخمس، والباحثون المصريون في مراكز الأبحاث العالمية ـ كل هؤلاء يشكلون شبكة نفوذ ناعم تخلق جسوراً اقتصادية وعلمية بين مصر والعالم.

حتى في عالم الأدب والفكر، تجد طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وغيرهم من العمالقة الذين تركوا بصمات فكرية لا تُمحى في الثقافة العربية والعالمية. هذا التراث الفكري والأدبي يجعل من مصر منارة ثقافية يحترمها المثقفون والأكاديميون حول العالم. النجوم المصريون يكسرون الحواجز التي تعجز الدبلوماسية التقليدية عن كسرها، ويجعلون العالم أكثر استعداداً للشراكة مع مصر والاستثمار فيها.

المشكلة أن مصر تتعامل مع كل هذه المقومات الحضارية والقوة الناعمة كـتراث للفخر وليس كـأدوات للاستثمار. الوقت حان لتغيير هذه النظرة، وتحويل الكنز الحضاري المدفون إلى محرك اقتصادي يدفع مصر نحو نادي العشرة الكبار.

استراتيجيات بناء التحالفات الاقتصادية

"وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ـ" هذه الآية الكريمة تضع الأساس الأخلاقي لما يجب أن تكون عليه التحالفات الاقتصادية في الرؤية الإسلامية.

ولكن كيف تترجم مصر هذا المبدأ القرآني إلى استراتيجية عملية تضعها في قلب الشبكة الاقتصادية العالمية؟

الاستراتيجية الأولى تقوم على قيادة التحالف الاقتصادي الإسلامي العالمي. منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة، ليست مجرد منظمة سياسية أو دينية، بل هي أكبر تجمع اقتصادي محتمل في العالم بعد الأمم المتحدة. لكن المشكلة أن هذا التجمع يعمل دون قيادة اقتصادية حقيقية، ودون استراتيجية موحدة للتكامل الاقتصادي. مصر، بمرجعيتها الدينية وموقعها الاستراتيجي وخبرتها التاريخية، يمكن أن تصبح القلب النابض لهذا التحالف.

الاستراتيجية الثانية تركز على بناء المحور العربي-الأفريقي الذي تقوده مصر. فمصر ليست فقط عضواً في الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، بل يجب أن تصبح الجسر الاقتصادي بين العالمين العربي والأفريقي. أفريقيا اليوم تشهد أسرع معدلات نمو في العالم، والعالم العربي يملك رؤوس الأموال والخبرات التقنية. مصر يمكن أن تقود تحالفاً عربياً ـ أفريقياً يخلق سوقاً موحدة تضم أكثر من مليار نسمة، وتربط بين ثروات الخليج وإمكانيات أفريقيا الهائلة. هذا التحالف لن يفيد مصر فقط، بل سيخلق نموذجاً اقتصادياً جديداً يقوم على التكامل والتعاون المتبادل.

الاستراتيجية الثالثة تقوم على بناء شراكات استراتيجية عالمية متوازنة. مصر لا تحتاج إلى اختيار معسكر واحد في النظام العالمي الجديد، بل موقعها الاستراتيجي وقوتها الناعمة تؤهلانها لتكون جسراً بين جميع المعسكرات. مع أوروبا يمكن لمصر أن تصبح الشريك الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة ومحاربة الهجرة غير الشرعية والتعاون الأمني. مع آسيا تبحث الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية عن شراكات في الأسواق الناشئة، ومصر يمكن أن تصبح المنصة الآسيوية للوصول إلى أسواق أفريقيا والشرق الأوسط. والعلاقات التاريخية القوية مع الولايات المتحدة يمكن أن تتطور لتصبح شراكة اقتصادية استراتيجية تركز على الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا المتقدمة.

الاستراتيجية الرابعة تعتمد على قيادة تحالفات قطاعية متخصصة بدلاً من الاعتماد على التحالفات الجغرافية فقط. يمكن لمصر أن تقود تحالف الطاقة المتجددة مع الدول المتقدمة في هذا المجال، وتحالف التمويل الإسلامي مع ماليزيا والإمارات والبحرين، وتحالف السياحة الثقافية مع الدول التي تملك تراثاً حضارياً مشابهاً، وتحالف الأمن الغذائي مع الدول الزراعية في أفريقيا وآسيا. هذه التحالفات المتخصصة تخلق شبكات اقتصادية أكثر عمقاً وتأثيراً من التحالفات العامة.

الاستراتيجية الخامسة تقوم على التنويع الذكي للتحالفات. الهدف ليس الاعتماد على تحالف واحد، بل بناء شبكة متنوعة ومتوازنة من التحالفات الاقتصادية. هذا التنويع يحقق لمصر استقلالية اقتصادية ومرونة في التعامل مع التغيرات الجيوسياسية العالمية. عندما تصبح مصر عضواً أساسياً في تحالفات متعددة ومتنوعة، لن تعود مجرد دولة تابعة لقوة واحدة، بل ستصبح قوة مؤثرة يحسب لها كل طرف حساباً.

بناء التحالفات الاقتصادية ليس مجرد خيار لمصر، بل ضرورة استراتيجية لمن يريد أن يصل إلى نادي العشرة الكبار. لكن هذه التحالفات يجب أن تكون مدروسة ومتوازنة ومتنوعة، وأن تقوم على أساس المصالح المتبادلة والقيم المشتركة.

مصر لا تحتاج إلى أن تكون تابعة لأحد، بل تحتاج إلى أن تصبح المحور الذي تدور حوله التحالفات.

التحديات والفرص المستقبلية

عندما ننظر إلى الواقع بعين ناقدة وصادقة، نجد أن الطريق نحو قيادة الدبلوماسية الاقتصادية ليس مفروشاً بالورود. هناك تحديات حقيقية وعميقة تحتاج إلى مواجهة صريحة وحلول جذرية.

التحدي الأول والأكبر يكمن في أن مصر لا تزال تفكر بعقلية دولة تبحث عن مساعدة وليس بعقلية قوة إقليمية تقود. هذه العقلية انعكست على سياساتها الاقتصادية وعلاقاتها الدولية، حيث تركز على جذب المساعدات والقروض أكثر من التركيز على بناء الشراكات الاستراتيجية المتكافئة. هذا التحدي النفسي والاستراتيجي يحتاج إلى ثورة حقيقية في طريقة التفكير، من عقلية الحاجة إلى عقلية القوة.

التحدي الثاني يتمثل في ضعف التنسيق بين المؤسسات المصرية المختلفة. الأزهر يعمل في اتجاه، ووزارة الخارجية في اتجاه آخر، ووزارة الاستثمار في اتجاه ثالث، والقطاع الخاص في واد رابع. هذا التشتت يضيع الفرص الذهبية ويضعف التأثير المحتمل للقوة الناعمة المصرية. تحتاج مصر إلى استراتيجية موحدة تجمع كل هذه المؤسسات تحت مظلة واحدة، بحيث يصبح كل تصريح من الأزهر، وكل مبادرة من الخارجية، وكل مشروع استثماري، جزءاً من استراتيجية شاملة للدبلوماسية الاقتصادية الإسلامية.

التحدي الثالث يكمن في المنافسة الشرسة من دول إسلامية أخرى تفهم قيمة هذا السوق وتستثمر فيه بذكاء. ماليزيا أصبحت عاصمة التمويل الإسلامي العالمي، وتركيا تبني نفوذاً اقتصادياً قوياً في العالم الإسلامي. هذه الدول لم تنتظر، بل تحركت بسرعة واستراتيجية واضحة. مصر تحتاج إلى أن تتحرك بسرعة أكبر وذكاء أعمق لتعوض ما فاتها وتتفوق على منافسيها.

لكن هذه التحديات مهما كانت جدية لا تُقارن بحجم الفرص الاستثنائية المتاحة أمام مصر:

الفرصة الأولى والأهم تكمن في أن العالم الإسلامي يشهد نهضة اقتصادية حقيقية وغير مسبوقة. دول الخليج تتحول من اقتصادات نفطية إلى مراكز مالية وتكنولوجية عالمية. دول جنوب شرق آسيا الإسلامية تحقق معدلات نمو مذهلة. دول أفريقيا المسلمة تكتشف إمكانياتها الهائلة. هذا النمو الاقتصادي الإسلامي العالمي يخلق فرصاً استثمارية وتجارية لا تُقدر بثمن لمن يعرف كيف يستغلها.

الفرصة الثانية تتمثل في التحولات الجيوسياسية العالمية التي تفتح مجالاً أوسع للقوى الإقليمية للعب دور أكبر. العالم لم يعد أحادي القطب، والنظام العالمي الجديد يتيح لدول مثل مصر أن تبني تحالفات متنوعة ومتوازنة دون الخضوع لهيمنة قوة واحدة. هذا التعدد القطبي يمنح مصر مرونة استراتيجية لم تكن متاحة من قبل.

ماليزيا بدأت من الصفر في السبعينيات، واليوم تقود العالم في التمويل الإسلامي. لم تملك نفط الخليج أو موقع مصر الاستراتيجي، لكنها ملكت الإرادة والاستراتيجية الواضحة. استثمرت في هويتها الإسلامية بذكاء، وطورت نظاماً مصرفياً إسلامياً متطوراً، وجذبت رؤوس الأموال الإسلامية العالمية. النتيجة: كوالالمبور أصبحت عاصمة التمويل الإسلامي العالمي.
الفرصة الثالثة تكمن في النمو المتسارع لاقتصاد الحلال عالمياً، من الغذاء الحلال إلى التمويل الإسلامي إلى السياحة الحلال إلى الأزياء المحتشمة. هذا السوق ينمو بمعدلات تفوق الاقتصاد العالمي، ويبحث عن قيادة موثوقة ومرجعية معتمدة. مصر بأزهرها وتراثها الإسلامي، يمكن أن تصبح المرجعية العالمية لهذا الاقتصاد الحلال المتنامي.

الفرصة الرابعة تتعلق بالثورة التكنولوجية التي تفتح آفاقاً جديدة للدبلوماسية الاقتصادية. وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات الرقمية، والتجارة الإلكترونية، والعملات المشفرة، كلها أدوات جديدة يمكن لمصر أن توظفها لتوسيع نفوذها الاقتصادي الناعم دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية التقليدية.

الفرصة الخامسة تكمن في التحديات العالمية المشتركة التي تحتاج إلى حلول جماعية، من تغير المناخ إلى الأمن الغذائي إلى مكافحة الفقر. هذه التحديات تفتح مجالات جديدة للتعاون الاقتصادي الدولي، ومصر يمكن أن تقود مبادرات إسلامية عالمية لمواجهة هذه التحديات، مما يعزز مكانتها كقوة ناعمة مؤثرة وموثوقة.

لكن اغتنام هذه الفرص يتطلب تحولاً جذرياً في نظرة مصر لنفسها ولدورها في العالم. يتطلب الانتقال من ردود الأفعال إلى المبادرة، ومن التفكير المحلي إلى التفكير العالمي، ومن البحث عن المساعدة إلى تقديم القيادة.

المستقبل لن ينتظر مصر كثيراً. فالفرص التاريخية لا تتكرر، والعالم يتحرك بسرعة مذهلة. إما أن تلحق مصر بقطار التحول العالمي وتقوده، أو أن تبقى في المحطة تتفرج على القطارات وهي تمر.

نماذج دولية ناجحة في الدبلوماسية الاقتصادية

العبرة ليست في أن تخترع العجلة من جديد، بل في أن تتعلم ممن سبقوك وتطور على تجاربهم.

ماليزيا بدأت من الصفر في السبعينيات، واليوم تقود العالم في التمويل الإسلامي. لم تملك نفط الخليج أو موقع مصر الاستراتيجي، لكنها ملكت الإرادة والاستراتيجية الواضحة. استثمرت في هويتها الإسلامية بذكاء، وطورت نظاماً مصرفياً إسلامياً متطوراً، وجذبت رؤوس الأموال الإسلامية العالمية. النتيجة: كوالالمبور أصبحت عاصمة التمويل الإسلامي العالمي.

سنغافورة حولت موقعها الجغرافي الاستراتيجي إلى قوة اقتصادية هائلة. لا تملك موارد طبيعية، لكنها استثمرت في رأس المال البشري والخدمات المالية والابتكار. أصبحت مركزاً عالمياً للتجارة والخدمات المصرفية رغم صغر حجمها.

الإمارات بنت اقتصاداً متنوعاً من الصحراء. استثمرت في الخدمات اللوجستية والسياحة والتكنولوجيا المالية. دبي اليوم تنافس لندن ونيويورك كمركز مالي عالمي، وتستقطب السياحة والاستثمارات الإسلامية بأساليب مبتكرة.

مصر تجلس على كنز مدفون من القوة الناعمة الإسلامية والحضارية لا تملكه أي دولة أخرى في العالم. الأزهر الشريف، والتراث الإسلامي العريق، والموقع الاستراتيجي، والنجوم العالميون، والثقافة المؤثرة ـ كل هذا ليس مجرد تراث نفتخر به، بل أدوات اقتصادية يمكنها أن تدفع مصر إلى نادي العشرة الكبار.
كوريا الجنوبية استخدمت قوتها الناعمة الثقافية - من الدراما إلى الموسيقى إلى التكنولوجيا - لتصبح قوة اقتصادية عالمية. الموجة الكورية لم تكن مصادفة، بل استراتيجية مدروسة حولت الثقافة إلى صادرات اقتصادية.

مصر تملك مقومات أقوى من كل هذه الدول مجتمعة، لكنها تحتاج إلى الإرادة والاستراتيجية الواضحة للاستفادة منها.

آليات التنفيذ والتفعيل

ـ الأفكار الجميلة بدون تنفيذ محكم تبقى مجرد أحلام على الورق. وهذه مقترحات لآليات التنفيذ والتفعيل.

ـ إنشاء المجلس الأعلى للدبلوماسية الاقتصادية برئاسة مباشرة من رئيس الجمهورية، يضم الأزهر والخارجية والاستثمار والسياحة والتجارة. هدفه وضع استراتيجية موحدة وضمان التنسيق المستمر بين جميع الجهات.

ـ إنشاء أكاديمية الدبلوماسية الاقتصادية لتدريب الكوادر المتخصصة على فهم خصوصيات الأسواق الإسلامية، وأحكام التمويل الإسلامي، واستراتيجيات التواصل الثقافي مع المجتمعات المسلمة وغيرها.

إـ طلاق صندوق مصر للاستثمار الإسلامي بشراكة مع البنوك الإسلامية العالمية، لجذب رؤوس الأموال الإسلامية وتوجيهها للمشاريع الاستراتيجية في مصر.

ـ تفعيل منصة رقمية متكاملة للترويج للفرص الاستثمارية المصرية باللغات المختلفة، وتقديم خدمات متوافقة مع الشريعة للمستثمرين المسلمين.

ـ وضع مؤشرات أداء واضحة وقابلة للقيا مثل نمو التجارة مع الدول الإسلامية، زيادة الاستثمارات الإسلامية، تطور قطاع السياحة الحلال، نمو القطاع المصرفي الإسلامي، وتحسن ترتيب مصر في مؤشرات التنافسية العالمية.

ـ المراجعة الدورية والتطوير المستمر لضمان تحقيق الأهداف والتكيف مع المتغيرات العالمية.

وفي الختام لا تنتظر مصر أن يأتي أحد لينتشلها، بل العالم ينتظر من مصر أن تقود.

في رحلتنا عبر هذا المقال، اكتشفنا أن مصر تجلس على كنز مدفون من القوة الناعمة الإسلامية والحضارية لا تملكه أي دولة أخرى في العالم. الأزهر الشريف، والتراث الإسلامي العريق، والموقع الاستراتيجي، والنجوم العالميون، والثقافة المؤثرة ـ كل هذا ليس مجرد تراث نفتخر به، بل أدوات اقتصادية يمكنها أن تدفع مصر إلى نادي العشرة الكبار.

مصر تملك كل هذا، لكنها تحتاج إلى قرار سياسي واضح، واستراتيجية محكمة، وتنفيذ منضبط.

الفرصة متاحة اليوم، لكنها لن تبقى متاحة إلى الأبد. فالعالم يتحرك بسرعة، والمنافسون لا ينامون، والتاريخ لا ينتظر المترددين.