قضايا وآراء

مصر بين "المؤامرة الكونية!" و"الهزليات الانتخابية!"

"أجرى النظام انتخابات رئاسية قبل موعدها بستة أشهر، وزعم أنها شهدت أعلى تصويت في تاريخ مصر"- الأناضول
من سخريات السياسة في مصر أن نظاما عسكريا حاكما يتفاخر قائده بأنه ليس سياسيا، ولا يؤمن أساسا بفكرة الأحزاب أو تداول السلطة أو الانتخابات، ومع ذلك فإنه يحافظ على طقس انتخابي شكلي، لا يتعدى كونه فقرة سيرك سياسي سمج، يزعم من خلاله أن جماهير حاشدة قد خرجت، وشاركت في "العرس الديمقراطي" وانتخبت بكل حريتها نوابها أو رئيسها، بينما الجميع يشاهد هذه الفقرة الهزلية، ولا يستطيع حتى الضحك!!

وللمفارقة السياسية أيضا، فإن هذا النظام يروج عبر أذرعه السياسية والإعلامية عن تعرضه لمؤامرة كونية كبرى، وأن الحرب عليه قد بدأت بالفعل (والإشارة هنا إلى سلسلة الحوادث الكبرى التي هزت مصر مؤخرا ومنها حرائق وحوادث طرق)، ومع ذلك فإنه يواجه هذه المؤامرة الكونية بهذه المسرحيات الانتخابية الهزلية التي تزيد الغضب اشتعالا، ويلقي من خلال أبواقه وأذرعه المسئولية على مؤامرات خارجية خلف الحرائق وحوادث الطرق التي راح ضحيتها الكثيرون، دون أن يكشف للمصريين عمن ارتكبوا تلك الجرائم، ومن ثم محاكمتهم.

في آخر شهور العام 2023 أجرى النظام انتخابات رئاسية قبل موعدها بستة أشهر، وزعم أنها شهدت أعلى تصويت في تاريخ مصر، وهو نفس الكلام الذي قاله عن دورتين سابقتين، ويوم الجمعة الماضي أعلنت هيئة الانتخابات القائمة المبدئية للمرشحين في انتخابات مجلس الشيوخ التي ستجري مطلع آب/ أغسطس المقبل، وقبل نهاية العام ستجري انتخابات مجلس النواب.

كان من الممكن أن تكون هذه الانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية نافذة لمواجهة ما يدعيه من مؤامرة كونية، ولحل الأزمة السياسية في مصر التي بدأت بانقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لكن النظام الحاكم يستخدمها في كل مرة لتعميق الأزمة، وإقناع الشعب بانسداد أي أفق سياسي، واضطراره لقبول الواقع المرير

كان من الممكن أن تكون هذه الانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية نافذة لمواجهة ما يدعيه من مؤامرة كونية، ولحل الأزمة السياسية في مصر التي بدأت بانقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لكن النظام الحاكم يستخدمها في كل مرة لتعميق الأزمة، وإقناع الشعب بانسداد أي أفق سياسي، واضطراره لقبول الواقع المرير!!

لم يعد الشعب المصري يهتم بحديث المؤامرة التي أصبحت في نظره مثل قصة الراعي والذئب الشهيرة، ولا بالعملية الانتخابية رغم أنها تكلف ميزانية الدولة المنهكة ملايين بل مليارات الجنيهات، لم يعد يشغل نفسه بالذهاب إلى لجان انتخابات رغم تخويفه بدفع غرامات عن الغياب، وحتى المرشحين لم يعودوا يهتمون بالشعب لقناعتهم أنه ليس هو من يقودهم إلى مقعد البرلمان، بل يحدث ذلك بقرار من السلطة، وبدفع ملايين الجنيهات تبرعات إجبارية من الحالمين بتلك المقاعد وحصانتها.

وكما حدث في أول انتخابات برلمانية عقب الانقلاب أي منذ العام 2015، تولت الأجهزة الأمنية ترتيب كل شيء، بدءا بتجهيز القانون الانتخابي، ثم تحديد المرشحين المسموح لهم بالترشح والمسموح لهم بالفوز، وتأسيس أحزاب جديدة لتقسيم الغنيمة البرلمانية بينها بحصص محددة، وفي هذه المرة كما سابقتيها (2015-2020) تباشر الأجهزة الأمنية مهمتها في إخراج المسرحية الانتخابية، بالطريقة ذاتها، مع بعض الديكورات الجديدة مثل تأسيس حزب جديد هو "الجبهة الوطنية" ومنحه المرتبة الثالثة في ما عرف بالقائمة الوطنية بعدد 12 مقعدا من القائمة التي تضم 100 مقعد، وقد سبقه في المركزين الأول والثاني حزبا مستقبل وطن (44 مقعدا) وحُماة وطن (19 مقعدا)، مع توزيع باقي المقاعد على أحزاب الموالاة والمتحالفين معها. (المائة مقعد مخصصة لما يعرف بالقائمة المطلقة. وقد ترشحت في الانتخابات قائمة واحدة، وبالتالي ستفوز بالتزكية). وهناك مائة مقعد مخصصة للمقاعد الفردية، ومائة مقعد يختارها رئيس الجمهورية، وبهذا الشكل يكون النظام قد عين فعليا ثلثي أعضاء مجلس الشورى، ويتبقى مائة فقط للمنافسة تحت وصاية الأجهزة الأمنية، مع العلم أن الأحزاب الثلاثة السابقة ليست أحزابا سياسية بالمعنى المعروف، فهي ليست وليدة نضال شعبي، ولا تمثل رؤى سياسية محددة، بل تمثل الأجهزة الأمنية الحاكمة، وهي جهاز الأمن الوطني، وجهاز المخابرات العامة، والمخابرات الحربية.

المشهد الحزبي بشكل عام في مصر منذ الثالث من تموز/ يوليو 2013 هو مشهد هزلي، مائة حزب أو يزيد، لا يعرف الناس منها ربما أكثر من عشرة أحزاب، وهي في معظمها تنتمي لمعسكر 30 يونيو، مع غياب شبه تام للأحزاب المعارضة الحقيقية التي تم حظر نشاطها أو تجميدها عمليا، وحتى أحزاب 30 يونيو ليست جميعها محل رضا وقبول السلطة، فالجزء الأكبر منها (12 حزبا) ينضوي في الانتخابات البرلمانية (السابقة والحالية) تحت القائمة الأمنية، فيما تضم الحركة المدنية الديمقراطية والتي تمثل المعارضة مجموعة من الأحزاب اليسارية والليبرالية، وقد انقسمت بدورها بين أحزاب قبلت الانضواء ضمن القائمة الأمنية، وأحزاب فضلت الترشح منفصلة على المقاعد الفردية مع يقينها باستحالة الفوز، وأحزاب فضلت مقاطعة الانتخابات باعتبارها مسرحية هزلية.

عرفت مصر الحياة البرلمانية في العام 1866 بمجلس شورى النواب، وعرفت الحياة الحزبية مطلع القرن العشرين مع تأسيس الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل 1907، ثم قرر عسكر يوليو 1952 حل الأحزاب، حتى العام 1976 حين قرر الرئيس الراحل أنور السادات استئناف العمل الحزبي بتجربة المنابر ثم الأحزاب التي خرجت في حينه من بطن الاتحاد الاشتراكي (الحزب الواحد) والتي شهدت ولادة المزيد من الأحزاب لاحقا، وشاركت في الانتخابات البرلمانية المتعاقبة وصولا إلى انتخابات 2010 التي كانت أسوأ انتخابات ضمن تلك التجربة الحزبية الثانية، والتي كانت نتيجتها سيطرة الحزب الحاكم بشكل شبه كامل على البرلمان مع إسقاط مرشحي المعارضة، وهو ما كان أحد الأسباب القوية لاندلاع ثورة يناير بعد تلك الانتخابات بأقل من عام، وهو ما سيتكرر تقريبا في انتخابات الشيوخ الحالية والنواب المقبلة..

المشهد الحزبي الحالي هو النسخة الأردأ، وكذا الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ففي الحقبة الليبرالية كان هناك تداول للسلطة بين الأحزاب، ليشكل الفائز الحكومة، وفي التجربة الثانية منذ أواخر السبعينات شهدنا حضورا قويا لأحزاب المعارضة في برلمانات 1984، و1987، و2000، و2005، أما في مرحلة ما بعد 3 تموز/ يوليو فلم يُطق النظام وجود بضع نواب أطلقوا على أنفسهم تجمع (25-30) في إشارة إلى انتمائهم لثورة يناير، والثورة المضادة لها في 30 حزيران/ يونيو، وحرص النظام على صناعة معارضة مستأنسة لا تختلف كثيرا عن الموالاة إلا في بعض التفاصيل الجزئية، على أن يتم السماح بمرور نواب المعارضة هؤلاء من داخل القائمة التي ترتبها الأجهزة الأمنية.

مثلت الانتخابات الرئاسية في العام 2018 فرصة للخروج من الأزمة السياسية، وذلك مع ظهور اسمي رئيس الأركان السابق الفريق سامي عنان، ورئيس الوزراء السابق الفريق أحمد شفيق كمرشحين محتملين في مواجهة السيسي، لكن السيسي قضى على تلك الفرصة في مهدها عبر اعتقال الأول وتحديد إقامة الثاني.

وفي الانتخابات الرئاسية الماضية (أواخر 2023) ظهرت فرصة مجددا عبر إعلان النائب البرلماني السابق أحمد طنطاوي اعتزامه الترشح، وبدئه لحملة جمع التوكيلات القانونية اللازمة، لكن السيسي تصدى مجددا لوأد هذه الفرصة في مهدها، وحرمان طنطاوي قسرا من تلك التوكيلات، بل واعتقاله والعديد من أهله وأعضاء حملته (لا يزال بعضهم معتقلا حتى الآن).

إصرار السيسي على قتل أي أمل في التغيير السلمي لا يصنع للنظام أمنا ولا استقرارا، بل يجعله في حالة خوف دائم وهلاوس مستمرة، وضمن هذه الهلاوس الحديث المتصاعد عن مؤامرة كبرى تتعرض لها مصر، وضرورة الاصطفاف خلف النظام حتى يواجه هذه المؤامرة التي لم يقدم النظام نفسه تفصيلا لها، في خطوة مكررة عبر التاريخ للحكام المستبدين للهروب إلى الأمام، وإشغال الشعب بقصص المؤامرات لصرفه عن المطالبة بحقوقه السياسية (الحرية والديمقراطية) والاجتماعية (العدالة والعيش الكريم).

كفلاء النظام الإقليميين يبدون حاليا توجهات سلبية نحوه، وقد أعلن بعضهم أن زمن الشيكات المفتوحة انتهى، وتزخر صفحات التواصل الاجتماعي بالتعبيرات السلبية الخليجية تجاه مصر؛ يقودها مغردون لا يقدحون من رؤوسهم، وهو ما تعتبره أبواق النظام نوعا من الحرب والمؤامرة على مصر

ليس خافيا أن مصر طيلة تاريخها القديم والحديث تعرضت ولا تزال تتعرض للمؤامرات، ولكنها كانت تنجح في مواجهة هذه المؤامرات حين كانت جبهتها الداخلية قوية، وحين وُجدت حالة تناغم بين الحكام والمحكومين، أما حين كان حكامها يستأسدون على شعبها فإنها كانت تتعرض للهزائم والنكسات كما حدث في 1948، و1956، و1967.

موجات الغضب تتراكم وتتصاعد مع فشل النظام في تخفيف معاناة الشعب التي صنعها النظام نفسه، ومع تصاعد المديونيات الداخلية (10 تريليونات جنيه) والخارجية (155 مليار دولار) مع التعثر في سداد الأقساط والفوائد، ولجوء الحكومة لاقتراض المزيد من الديون الخارجية والداخلية، وكذا مع تصاعد الفشل الحكومي في علاج الأزمات والكوارث مثل حادث مقتل فتيات المنوفية، وحريق سنترال رمسيس، وانهيار العديد من الطرق والكباري التي نفذتها القوات المسلحة بدون خبرة كافية، ومع استمرار تصاعد الأسعار بدرجة لم يعد المواطن يحتمل المزيد منها، وكذا اضطرار آلاف المصريين للهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت بحثا عن الحد الأدنى لحياة كريمة.

إلى جانب الأزمات الداخلية فإن كفلاء النظام الإقليميين يبدون حاليا توجهات سلبية نحوه، وقد أعلن بعضهم أن زمن الشيكات المفتوحة انتهى، وتزخر صفحات التواصل الاجتماعي بالتعبيرات السلبية الخليجية تجاه مصر؛ يقودها مغردون لا يقدحون من رؤوسهم، وهو ما تعتبره أبواق النظام نوعا من الحرب والمؤامرة على مصر.

مواجهة التهديدات لمصر (سواء محاولات فرض تهجير الفلسطينيين إليها، أو تقزيم دورها، أو المس بأمنها القومي.. الخ) تكون بتحقيق وحدة وطنية حقيقية بين كل مكونات الشعب المصري، عبر رد المظالم والحقوق لأصحابها، وعبر فتح المجالين السياسي والاقتصادي، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة على طريقة انتخابات 2012، مع وقف مهازل الانتخابات البرلمانية وتأجيلها إلى ما بعد هذه الانتخابات الرئاسية حتى يتمكن الشعب من اختيار حكامه ونوابه بحرية ونزاهة، وساعتها سيقف الجميع صفا واحدا خلف القيادة المنتخبة أيا كانت في مواجهة المؤامرات أيا كانت أيضا.

x.com/kotbelaraby