قضايا وآراء

لماذا تغير الموقف المصري من قوافل التضامن مع غزة؟

"السلطات المصرية كانت تضمر الرفض مسبقا قبل وصول القافلة"- إكس
لم تكن مصر يوما كما هي اليوم في التعامل المخزي مع قوافل التضامن مع المحاصرين في غزة، منظر الاعتداء البدني المهين على المتضامنين الأجانب الذين دخلوا مصر بطريقة مشروعة ووصلوا إلى محافظة الإسماعيلية في طريقهم إلى رفح كان مقززا وبشعا إلى أقصى حد، منظر يندى له جبين كل مصري وكل إنسان حر.. هؤلاء نشطاء ضحّوا بمالهم ووقتهم بل وبحياتهم التي ربما كانوا سيفقدونها برصاصات العدو الصهيوني، جاءوا من أقصى أطراف العالم للتضامن مع أشقائنا نحن في غزة الذين لا تربطهم الوشائج ذاتها التي تربطنا نحن بأهل غزة (عروبة وإسلام وجوار ومصاهرة)، متضامنون حركهم ضميرهم، ورفضهم للعدوان والقتل والحصار والتجويع الذي يتعرض له أهل غزة، فاستقبلهم بغباء منقطع النظير، وروح عدوانية تنافس عدوانية الصهاينة من لا يملكون مثل ضميرهم، ولم ولن تفلح في محو تلك الفضيحة محاولات السلطات المصرية اللاحقة لتطييب خاطر بعض هؤلاء الضيوف الأجانب الذين أعادت لهم جوازات سفرهم، وخيرتهم بين البقاء أو السفر، ذلك أن العدوان الذي وقع ضدهم كان بترتيب وتدبير تلك السلطات، وعلى أيدي جنودها وعصابات تأتمر بأمرها.

حالة الهلع التي انتابت السلطات المصرية من قوافل التضامن تعكس شعور النظام بالضعف الشديد أمام الكيان وداعميه، على عكس ما يحاول إظهاره أمام الشعب المصري. شحن النظام قطاعا كبيرا من الشعب المصري إعلاميا ضد أي قوافل تضامن بدعوى أنها قوافل إخوانية تستهدف الأمن المصري، وأنها تستهدف جر مصر إلى حرب مع إسرائيل، وأنها تستهدف إحراج مصر، وأنها دخلت مصر بلا تأشيرات رسمية، وبلا ترتيب مسبق، بل وحتى بلا أوراق ثبوتية، وهي ادعاءات كاذبة، فمنظمو هذه القوافل نشطاء عالميون بعضهم غير مسلمين بالأساس، وبعضهم (قافلة الصمود) يساريون وناصريون وقوميون، وبعضهم من أنصار الرئيس قيس سعيد في تونس،
حالة الهلع التي انتابت السلطات المصرية من قوافل التضامن تعكس شعور النظام بالضعف الشديد أمام الكيان وداعميه، على عكس ما يحاول إظهاره أمام الشعب المصري
حليف نظام السيسي. ومنظمو قافلة الصمود (القادمة من بلدان المغرب العربي) نسقوا مسبقا مع السفارة المصرية في تونس، وقدموا لها قائمة بأسماء المشاركين في القافلة منذ اللحظات الأولى، ومنحوها الوقت الكافي للتشاور مع القاهرة، ورغم أن السفارة لم تمنحهم تأشيرات دخول إلا أنها لم تغلق أمامهم باب الأمل في الحصول على التأشيرات. ومن هنا تحركت القافلة على أمل أن تصل التأشيرات قبل الوصول إلى الحدود المصرية، وبدلا من صدور التأشيرات صدر بيان للخارجية المصرية يدعي عدم التزام القافلة بالإجراءات الرسمية اللازمة لدخول مصر!!

الحقيقة أن السلطات المصرية كانت تضمر الرفض مسبقا قبل وصول القافلة، واكتفت بتحريك كتائبها الإعلامية للتحريض ضد القافلة ونواياها والمشاركين فيها. وربما راهنت في البداية على حليفها حفتر لمنع وصولها إلى الشرق الليبي، لكن صدور تصريحات من الحكومة الموازية التابعة لحفتر في بنغازي برئاسة أسامة حماد، ترحيبا بالقافلة، أربك السلطات المصرية، فاضطرت أن تكشف موقفها الرافض للقافلة (تدخل حفتر في النهاية ربما بتوجيهات إماراتية أو بتنسيق مع مصر لوقف القافلة عند سرت، وتعامل رجاله بعدوانية معها، واضطرت القافلة للعودة خمسين كيلومترا إلى مصراتة تجنبا لمزيد من الاعتداءات، وحتى تتمكن من التواصل مع المشاركين الذين فقدوا التواصل بعد قطع الاتصالات عنهم).

تغير الموقف الرسمي المصري من السماح لقوافل التضامن إلى الرفض وحتى الاعتداء على المتضامنين؛ فهو جزء من عقلية نظام عسكري يخشى أي تحرك شعبي حتى لو لم يكن مصريا، وحتى لو لم يكن متعلقا بقضية مصرية.. هو نظام يخشى على نفسه أكثر من خشيته على الأمن القومي كما يزعم، وهو نظام لا يريد استفزاز الصهاينة حتى لو استفزوه ألف مرة

لم تكن مصر يوما بهذا الشكل في التعامل مع قوافل التضامن، بل كانت القاهرة عنوانا رئيسا للتضامن مع الشعوب المقهورة، وقفت إلى جانب حركات التحرر العربي والأفريقي والآسيوي، وسمحت لقوافل التضامن العالمية مع العراق وفلسطين من قبل. نتذكر هنا قافلة مريم للتضامن مع أطفال العراق التي قادها النائب البريطاني جورج غالوي مطلع التسعينات، والتي تحركت من لندن مرورا بالعديد من العواصم والمدن الأوروبية والعربية وصولا إلى مصر، حيث طافت حافلة لندن الشهيرة ذات الطابقين شوارع القاهرة وسط مشاركة شعبية مصرية واسعة قبل أن تنتقل إلى الأردن ومنها إلى العراق، وهو ما تكرر من النائب نفسه في قافلة دعم لغزة عام 2009، وهذه القافلة مرت أيضا بعدة عواصم ومدن أوروبية، ثم انتقلت إلى المملكة المغربية، ومنها إلى الجزائر (وبالمناسبة فتحت الدولتان حدودهما المغلقة بين وجدة المغربية ومغنية الجزائرية إكراما للقافلة)، ثم انتقلت شرقا من الجزائر إلى تونس وليبيا ثم مصر وصولا إلى غزة ومرورا بمعبر رفح محملة بالمساعدات.

لم تتوقف قوافل التضامن والدعم المصري والعالمي للشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة، نتذكر هنا دور قوافل لجنة الإغاثة الإنسانية في نقابة الأطباء منذ التسعينات، ونتذكر دور قوافل اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية، ونتذكر سفر وفود رسمية أو شعبية إلى غزة للتضامن معها؛ كان أبرزها الوفد الرسمي والشعبي الذي قادة رئيس الوزراء هشام قنديل في العام 2012، والذي وصل إلى غزة خلال العدوان فتوقف العدوان على الفور تقديرا لمصر ووفدها.

قوافل التضامن العالمية مع غزة لا تستهدف النظام ولا الأمن المصري وفقا لتصريحات المنظمين، لكنها تستهدف إيصال رسالة تضامن رمزية مع أهل غزة في الوقت الذي خذلتهم فيه الحكومات العربية والغربية والشرقية، وهذه القوافل لم تستهدف التحرك من الحدود المصرية فقط، بل هناك خطة لتحرك بعض القوافل من حدود عربية أخرى مثل سوريا والأردن، ناهيك عن قافلة مادلين البحرية التي أوقفتها سلطات الاحتلال وهي مقدمة لعدة قوافل بحرية جاري الترتيب لها أيضا.. أما تغير الموقف الرسمي المصري من السماح لقوافل التضامن إلى الرفض وحتى الاعتداء على المتضامنين؛ فهو جزء من عقلية نظام عسكري يخشى أي تحرك شعبي حتى لو لم يكن مصريا، وحتى لو لم يكن متعلقا بقضية مصرية.. هو نظام يخشى على نفسه أكثر من خشيته على الأمن القومي كما يزعم، وهو نظام لا يريد استفزاز الصهاينة حتى لو استفزوه ألف مرة، ولذا لا يتوقع أن يسمح لأي تضامن إلا ما يرتبه هو بنفسه عبر أجهزته الأمنية، وأحزابه الكرتونية والذي يكون هدفه بالأساس هو اللقطة التلفزيونية.

x.com/kotbelaraby