قضايا وآراء

التوظيف السياسي للصوفية في مصر

"دفعت السلطة بوزير أوقافها وكثير من رجالها الرسميين وغير الرسميين للمشاركة في احتفالات مولد السيد البدوي"- عربي21 (أرشيفية)
الاحتفالات الصاخبة والمبالغ فيها كثيرا هذا العام (2025) بمولد السيد البدوي، أحد أقطاب الصوفية في مصر، هي جزء من سياق عام لتوظيف التصوف الشعبي سياسيا كبديل، أو كقوة شعبية لمواجهة تيار الإسلام السياسي بشقيه الإخواني والسلفي الحركي.

رفعت السلطة الحاكمة في مصر بقيادة السيسي شعار تجديد الخطاب الديني؛ بما يعني عمليا نزع كل ما من شأنه الحث على الإصلاح، وتغيير "المنكر" السياسي، وأبشع هذا المنكر هو اغتصاب الإرادة الشعبية، وحكم الشعب قهرا، وفرض سياسات القمع والتجويع والصمت عليه، مع مطالبته بقبول هذه السياسات، واعتبارها أفضل الخيارات تجنبا لفوضى متوهمة!

تجديد الخطاب الديني تضمن أيضا بعض القضايا الفقهية التي تبنى فيها النظام رؤى علمانية أراد إلباسها ثوب الدين، لكن الأزهر بقيادة الشيخ أحمد الطيب تصدى لها، وهو ما أحدث جفوة بين الطرفين دفعت السيسي للشكوى علنا "تعبتني يا فضيلة الإمام"، وفضيلة الإمام نفسه ينتمي للمدرسة الصوفية، وشقيقه شيخ لإحدى طرقها، وهذا يعني أن السلطة تتبنى خطابا مزدوجا تجاه الخطاب الديني، فهي تسعى لتجديده وتحديثه بما يقربه من الرؤى العلمانية، وفي الوقت نفسه تشجع انتشار التصوف الشعبي بكل ما يحمله من دروشة، وتغييب للعقل، وتبني للخرافات التي يأباها التصوف القويم، المهم بالنسبة للسلطة الحاكمة هو إلهاء الشعب عن ممارساتها، وجرائمها بحقه، وبحق الوطن عموما.

السلطة تتبنى خطابا مزدوجا تجاه الخطاب الديني، فهي تسعى لتجديده وتحديثه بما يقربه من الرؤى العلمانية، وفي الوقت نفسه تشجع انتشار التصوف الشعبي بكل ما يحمله من دروشة، وتغييب للعقل، وتبني للخرافات التي يأباها التصوف القويم، المهم بالنسبة للسلطة الحاكمة هو إلهاء الشعب عن ممارساتها، وجرائمها بحقه

دفعت السلطة بوزير أوقافها وكثير من رجالها الرسميين وغير الرسميين للمشاركة في احتفالات مولد السيد البدوي، ودخلت دار الإفتاء على الخط لتبرير ما يفعله العامة من تمسح بأضرحة الأولياء، والتوسل بهم لقضاء حاجاتهم، بدلا من تنبيه الناس إلى اللجوء إلى الله وحده لا شريك له، ونقلت القنوات والصحف الرسمية وشبه الرسمية جوانب من الحفل، وحين انتقد أحد البرامج تلك المظاهر في مولد البدوي تصاعدت على الفور دعوات لمقاضاة البرنامج وصاحبه والضيف المتحدث فيه!

المعركة بين الإسلام السياسي والنظم الاستبدادية في مصر ممتدة منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي عقب تولي الضباط الأحرار للحكم، وتحويل النظام من ملكي إلى جمهوري؛ قبل تلك الفترة لم تكن هناك مشاكل تذكر بين الإخوان باعتبارهم قلب الإسلام السياسي وبين الطرق الصوفية المنصرفة بطبيعتها عن معارك السياسة، فقد كان مؤسس جماعة الإخوان نفسه (حسن البنا) عضوا في الطريقة الحصافية الصوفية، وقد جعل ضمن تعريف الإخوان أنها "حقيقة صوفية". وبعد 1952 لم تكن هناك حياة سياسية، أو منافسة للضباط على سلطتهم بعد أن قضوا على كل المنافسين من يسار ويمين وإخوان، لكن مع عودة الحياة السياسية نسبيا منذ النصف الثاني للسبعينات بدأت السلطة تنتبه لأهمية كسب الطرق الصوفية، فأسست مجلسا أعلى للطرق الصوفية بالقانون 118 لسنة 1976، وحجزت مقعدا دائما في البرلمان لشيخ شيوخها، مع مقاعد متغيرة لشيوخ أو رموز صوفية أخرى؛ من خلال هذا المجلس استطاعت السلطة تحريك هذه الطرق وفقا لتوجهاتها، ودعما لسياساتها، مقابل توفير الحماية لهم في أضرحتهم، وموالدهم، ومناسباتهم المختلفة. (يتكون المجلس من عشرة أعضاء منتخبين من مشايخ الطرق الصوفية، وخمسه أعضاء مِن الأزهر والأوقاف والحكم المحلي والداخلية والثقافة معينين بحكم وظائفهم).

لا يمكننا التعميم على كل الطرق الصوفية، فمن بينها من اتخذت خطا محايدا، أو حتى ناقدا للسلطة في عهد الرئيس مبارك، ومن أمثلة الحياد العشيرة المحمدية التي كان شيخها محمد زكي إبراهيم، ومن أمثلة الانتقاد للسلطة الطريقة العزمية، وشيوخها من آل أبو العزايم، كما أن بعض الطرق الصوفية حاولت تأسيس أحزاب سياسية بعد ثورة يناير،
لجأ أخيرا لاستخدام ورقة الصوفية، ومحاولة صناعة ظهير شعبي له. وهنا يكمن سر اهتمامه بالموالد الصوفية الكبرى، وتسخير إمكانيات الدولة لصالحها، بل والسماح بالحضور الشعبي الضخم فيها (مليونا زائر في الليلة الكبيرة للسيد البدوي في طنطا) في وقت منع تماما أي تجمعات شعبية حاشدة أخرى
لكن تجاربها لم تكتمل. كما أن بعض الطرق الصوفية كان لها دور في مواجهة الاستعمار على خلاف غالبية الطرق التي مالأته، ودعت الناس لعدم مواجهته باعتباره قضاء وقدرا..

في أزمة نظام السيسي مع الإخوان عقب انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 استخدم طرقا مختلفة للمواجهة؛ بدأها بالقمع الشديد، والتصفية الجسدية، سواء خلال فض الاعتصامات، أو في الشوارع، وحتى المنازل، وإصدار أحكام إعدام بالجملة، وأحكام حبس مؤبد، ومطاردة، ونفي، إلى جانب ذلك خاض ضدهم مواجهة إعلامية جنّد خلالها كل ما امتلك من منابر إعلامية، بل أسس المزيد منها، وأنتج عشرات المسلسلات والأفلام لتشويههم، ثم لجأ أخيرا لاستخدام ورقة الصوفية، ومحاولة صناعة ظهير شعبي له. وهنا يكمن سر اهتمامه بالموالد الصوفية الكبرى، وتسخير إمكانيات الدولة لصالحها، بل والسماح بالحضور الشعبي الضخم فيها (مليونا زائر في الليلة الكبيرة للسيد البدوي في طنطا) في وقت منع تماما أي تجمعات شعبية حاشدة أخرى، سواء للتعبير عن رأيها في سياسات داخلية، أو خارجية مثل مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة.

رغم أن الطرق الصوفية تنتشر غالبا في صفوف الطبقات الشعبية، وهذا ما يظهر في مناسباتهم وموالدهم، ولكنها تضم أيضا شخصيات مثقفة من إعلاميين وفنانين، كما تضم عسكريين حاليين أو سابقين ورجال قضاء، وعلماء أزهريين، ومن واجب المثقفين الواعين في تلك الطرق توعية قادتها بمحاولات توظيفهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل ربما يكون دورهم الأصيل فيها عكس ما يُطلب منهم؛ مثل معركة تجديد الخطاب الديني التي يتبناها السيسي، وتحذيرهم أيضا من استخدامهم كأدوات في معارك سياسية للنظام ضد خصومه من قوى التغيير المختلفة، فالصوفية الحقة ضد الظلم والاستبداد والفساد، والمتصوف الحقيقي عليه مواجهة كل هذه الخطايا.

x.com/kotbelaraby