كتاب عربي 21

القتلة لا يشتغلون وحدهم.. العرب حاضنة الصمت والتجويع والإبادة

"الإبادة تنتهج التجويع من لحظتها الأولى ولكنّها هذه المرة أرادت أن تجعله مطبقا لا ثغرة فيه لقطرة حليب أو لقمة طعام"- الأناضول
لا يمكن في غزّة وصف مرحلة بأنّها أشدّ من غيرها، ولكنّ لحظات الغزيين تتنافس على الشدّة. هذه الأيام يُحكِم التجويع الإسرائيلي قبضته على الغزيين، وكأنّ قدرهم أن تتلون عليهم المحن والبلاءات والفظائع العظيمة بألوان لا تبدو متناهية، فما دام الغزيّ على قيد الحياة، فنصيبه من المآسي ما يفوق القدرة الآدمية على الخيال، حتى إذا ظنّ أنّ هذا منتهى ما يمكن للشدّة أن تبلغه، وجدها تتلون عليه بلون جديد لم يعرفه من قبل، ينضمّ إلى ألوان الشدّة الأخرى التي عرفها من قبل باقية بلا زوال. على أية حال، يجب القول عن هذا التجويع إنّه تجويع في غمرة الإبادة، يصحبه القصف والقتل والتشريد والنزوح المستمر.

هذه الإبادة، التي تنتهج التجويع من لحظتها الأولى ولكنّها هذه المرة أرادت أن تجعله مطبقا لا ثغرة فيه لقطرة حليب أو لقمة طعام، ليست تفنّنا إسرائيليّا خاصّا بالإسرائيليين. ليس القصد من هذا القول استعادة ما استبانت عنه الطبيعة الإنسانية من استعداد مريع للشرّ تجسد على أيدي أقوام آخرين في أزمنة سابقة وأمكنة أخرى، فهذا، ومع كونه صحيحا، فإنّ الشرّ لا يتحرك في الفراغ، ولا يعمل لمجرّد أنّ النفس الشريرة مستعدة له، فلا بدّ من شروط موضوعية تسمح لهذا الشرّ بالاستطالة والتمدد والاستمرار، وبنحو يفترض فيه أنه مصادم لكل دعاوى البشر عن الخير والعدالة وما يسمونه حقوق الإنسان، لا سيما تلك الدعاوى الغربية؛ التي استباح بها، ويا للمفارقة، الغربيون البشرَ، فقتلوا الناس لأجل تعليمهم الحرية والديمقراطية! من يتذكر العراق؟!

لا يجهل عربيّ واحد، أن الفظائع التي تحيط بالغزيين وتطبق عليهم فوق أن يقال عنها إنّها غير محتملة، فظائع لو كان للجبال أن تحسّ لخرّت منها، فظائع تكاد السماوات تتفطرن من هولها، فقط فلنأخذ ما تفعله الإمبراطورية الأمريكية مع الاستعمار الإسرائيلي من تحويل ما يسمونه مراكز لتوزيع المساعدات إلى مصائد يتسلى فيها جنود الاحتلال بقتل الفلسطينيين

لكن يجب أن نكون صريحين في تحديد الشروط الموضوعية، التي سمحت للإبادة المتزنّرة بالتجويع بالاستمرار هذا الوقت الطويل كله على الغزيين. وينبغي أن نتواضع أول الأمر في محاولة وصف ما يجري على الغزيين، لأنّ محاولة تصوّر ما لا يُتخيل غير ممكنة، ولكن على الأقلّ لا يجهل عربيّ واحد، أن الفظائع التي تحيط بالغزيين وتطبق عليهم فوق أن يقال عنها إنّها غير محتملة، فظائع لو كان للجبال أن تحسّ لخرّت منها، فظائع تكاد السماوات تتفطرن من هولها، فقط فلنأخذ ما تفعله الإمبراطورية الأمريكية مع الاستعمار الإسرائيلي من تحويل ما يسمونه مراكز لتوزيع المساعدات إلى مصائد يتسلى فيها جنود الاحتلال بقتل الفلسطينيين، هذا وحده دون بقية أنماط الإبادة والقهر الأخرى كاف لاستدعاء تحرّك لغلّ الأيدي القاتلة، ولكنّ شيئا لا يحدث.

صدر في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، بعد أكثر من شهر على الإبادة الجماعية، بيان عن القمة/ العربية الإسلامية المنعقدة في الرياض، والبيان على هزاله، أعلن عن جملة قرارات للقمة كان منها "دعم كل ما تتخذه جمهورية مصر العربية من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وإسناد جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري ومستدام وكاف"، بعد ذلك بعام كامل بالضبط، انعقدت قمة عربية إسلامية أخرى في الرياض، وأصدرت بيانا أفضل حالا، جاء فيه: "التأكيد على القرارات التي صدرت عن القمة المشتركة الأولى غير العادية في مدينة الرياض في نوفمبر 2023، وتجديد التصدي للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة ولبنان، والعمل على إنهاء تداعياته الإنسانية الكارثية على المدنيين؛ أطفالا ونساء وشيوخا ومدنيين عزّلا، ومواصلة التحرك، بالتنسيق مع المجتمع الدولي، لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية الخطيرة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني".

وإذن فإنّ ما فعلته الدول العربية والإسلامية، هو التأكيد اللفظي على قرارات سابقة اتخذتها، ثمّ لم تفعل أيّ شيء لتنفيذ هذه القرارات، ويمكن لكل دولة من هذه الدول، أن تزعم أنّها الأكثر دعما للفلسطينيين، والأكثر إرسالا للمساعدات إليهم، ولكن إسرائيل تمنع دخولها، وهو ما تقوله بالفعل لجان بعض هذه الدول الإلكترونية وإعلاميوها، ولكن ما تتعمد تلك الدول تجاهله في دعايتها؛ هو أن المشكلة ليست في إرسال المساعدات، ولكن في إدخالها، وأنّ المطالبة بإدخالها هو لأجل تلك الدول بقدر ما هي مطالبة لأجل الواقعة عليهم الإبادة، أي مطالبة بأن تكون دولا بالفعل، لها قيمة ووزن تأثير، وإلا فما معنى أن تصدر هذه الدول بيانات متباعدة كهذه، ثمّ تفرض إسرائيل كلمتها؟!

إسرائيل التي توقع الإبادة على قطاع غزّة، وتعمل بمثابرة على تحويل الضفة الغربية إلى بيئة طاردة لسكانها، وتستمر في العدوان على لبنان قصفا واحتلالا، وتفرض وصايتها على الجنوب السوري، وتتلاعب بالتوازنات الداخلية السورية، وذلك علاوة على القتل والقصف، هي بالفعل دولة تكاد تكون شبه إمبراطورية تفرض كلمتها على المجال العربيّ كله، مضافا إليه المجال الإسلامي، وهذه عملية إبادة اعتبارية للعربي والمسلم، الذي يجد دولته فاقدة لإرادة أن تصنع لنفسها قيمة حقيقية تعبّر بها عن شخصيته العربية والمسلمة، في الوقت الذي تقمع فيه مواطنها إن أراد أن يفعل أدنى شيء لفلسطين، وهنا علينا أن نتذكر دائما دولا عربية تعتقل من يكتب تغريدة يدافع فيها عن الغزيين، أو يؤيد فيها مقاومتهم.

في غمرة العجز، يبحث العربي عمّا ينفّس فيه قهره، فلا يجد إلا طائفة من الواقعة عليهم الإبادة لإدانتهم، فيستعيد تحميلهم المسؤولية بدعوى خطأ حساباتهم الواقعة خلف يوم السابع من أكتوبر، بالرغم من أن اللحظة الآن هي الإبادة التي تجاوزت ذلك اليوم، ولن تعدم في مثل هذا "التعاطف" العجيب، تقريعا لكل دعوة للفعل، وسبّا لكل تحرك، بدعوى أنه لن يؤثّر، وأنّه مزايدة

الدول العربية والإسلامية مدانة ابتداء، لأسباب كثيرة ليس هذا مقام ذكرها، ولكن يجب القول إنّها هي اليوم التي توفّر الشروط الموضوعية الأهمّ لاستمرار الإبادة والتجويع واستطالة الشرّ الإسرائيلي، ليس لأنّها تفقد القدرة، ولكن لأنّها تفقد الإرادة، بعضها لاعتبارات سياسية ضيقة متعلقة بأنظمتها، وبعضها لأنّها لم تتعود أن تكون مبادرة وذات شأن في مواجهة إسرائيل، وبعضها لأنّها لا ترى في إسرائيل أيّ خطر، بل الخطر في أن تتوقف المهمة الإسرائيلية في غزّة قبل القضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة. ومن نافلة القول إنّ الدول المطبعة مع إسرائيل، والتي لم تعتمد أيّ خطوة دنيا في سياق تقليص العلاقات معها أثناء الإبادة، وفي الوقت نفسه تحظر حماس وتدينها وتلاحقها وتسلط عليها إعلامها، بالضرورة هي دول في صفّ الإبادة والتجويع، ليس فقط لأنّ ثمن القضاء على حماس هو القضاء على الغزيين ومن خلفهم التخلّص من القضية الفلسطينية برمّتها، ولكن أيضا لأنّ حماس ليست كيانا معزولا عن مجتمعها، بحيث يقضي عناصرها وعوائلهم أوقاتهم "متنعمين" في الأنفاق بينما يعاني الغزيون الإبادة، كما تقول الدعاية المهينة لعقول المواطنين العرب، والمتعمدة مسخ وعيهم، فالإبادة أول ما تقصدت وأكثر من لاحقت عوائل هؤلاء المنتسبين لحماس، حتى لو لم يكونوا من جناحها العسكري.

الأمر لا يتوقف هنا. ففي غمرة العجز، يبحث العربي عمّا ينفّس فيه قهره، فلا يجد إلا طائفة من الواقعة عليهم الإبادة لإدانتهم، فيستعيد تحميلهم المسؤولية بدعوى خطأ حساباتهم الواقعة خلف يوم السابع من أكتوبر، بالرغم من أن اللحظة الآن هي الإبادة التي تجاوزت ذلك اليوم، ولن تعدم في مثل هذا "التعاطف" العجيب، تقريعا لكل دعوة للفعل، وسبّا لكل تحرك، بدعوى أنه لن يؤثّر، وأنّه مزايدة، لا سيما إن جاء من أطراف يبغضها هذا العربي أو ذاك، فدعوات الحركة غير مفيدة، ولكن شتم طائفة من الواقعة عليهم الإبادة مفيد! اشتمهم يا أخي إن كان هذا يشفي غيظك، ولكن قل شيئا آخر سوى توزيع الشتائم الأخرى على كلّ من يحاول أن يفعل شيئا مهما كان غير مؤثّر بمجرّده! ثم يبلغ اللؤم منتهاه بتوظيف معاناة الغزيين لإدانة غزيين آخرين يقع عليهم ما يقع على غيرهم من أهلهم، وكأنّ ما وسع الغزي يسع غيره، ممن يراقب من بعيد، فلا يجد شيئا ينحاز به إلى الغزيين إلا عزلهم عن بعضهم، وإذكاء الخصومة بينهم، وتصفية الحسابات مع فصائل يبغضها بجوع الغزيين ومعاناتهم!

x.com/sariorabi