يمثل مصادقة البرلمان
الجزائري على قانون تجريم الاستعمار، منعطفا تاريخيا في مسألة الذاكرة والتاريخ الجزائري الحديث.
مصادقة الغرفة الأولى للبرلمان على القانون المثير للجدل، جاء بعدما عجزت عن إقراره تشكيلات برلمانية سابقة لغياب رافعة سياسية وحكومية له، كون المسألة كانت دوما تتعلق بالتريّث ومحاولة عدم استفزاز
فرنسا، وأحيانا، وفي محطات سابقة، كان الرفض للفكرة صريحا من أعلى المستويات السياسية، تاركين الأمر لتحسّن العلاقات بالتطبيع التدريجي، واعتبار العلاقات الثنائية، إن لم تكن مثالية، فهي مستقرة.
الأمر بدا واضحا منذ 2019، وبالذات مع حركة التصحيح التاريخية التي سيّرها الشارع الجزائري عبر الحراك الوطني الذي كان القاطرة التي نقلت الجزائر إلى خط تماس جديد مع فرنسا، المستفيدة من النظام السابق ومهندسة الأزمات في الجزائر لصالحها ولصالح اللوبي الموالي لها.
مجيئ الرئيس
تبون في انتخابات ديسمبر 2019، أماطت اللثام على الهوة الكبيرة التي تفصل البلدين، بل وكشفت عن ساقي فرنسا في الإضرار بمصالح الجزائر الاقتصادية والسياسية، حتى مع الاتحاد الأوروبي، كون فرنسا كانت المدعمة دوما لحالة بقاء الجزائر تحت مظلة فرنسا وفي كل المجالات تقريبا. الجزائر بعد ديسمبر 2019، وبدعم فرنسا للعهد السابق وعدم تعاونها الجدي في مسألة ملاحقة مهربي الأموال والهاربين من العدالة والمحميين من خلف البحار وتلكأ فرنسا في مسألة الذاكرة والاعتراف بجرائمها في الجزائر والتعاون مع الدولة الجزائرية في مسألة تنظيف المواقع التي أجرت فيها عمليات التجارب النووية، وعدم تقديمها للأرشيف وللخرائط المطلوبة منها لمسح المناطق الملوثة إشعاعيا، جعل العلاقات الجزائرية-الفرنسية تتلوّث أكثر بدخول عوامل داخلية في فرنسا: صعود اليمين وبداية تآكل حكم الرئيس ماكرون، وتحوّل العلاقات الجزائرية من مستوى وزارتي الخارجية بالبلدين إلى تدخل الداخلية الفرنسية وتحويل مشكلتها مع المقيمين على أرضها بطريقة أو بأخرى، إلى ورقة ضغط ومساومة على جميع الأصعدة، بما في ذلك الصعيد الإنساني والاجتماعي، وتحولت التأشيرات إلى سيف دمقليس، تهدد به فرنسا الداخلية، الجزائر المستقلة.
كل هذا، وزيادة، فجّر كل الجسور التي بدأت تبنى بين الرئيسين تبون وماكرون، والتي كانت ستؤول في نهاية الأمر إلى انسداد، لغياب نية لدى الطرف الفرنسي بسبب الإكراهات السياسية وضعف حزب ماكرون أمام تصاعد اليمين في فرنسا وحتى في أوروبا بسبب الأزمات الداخلية الاقتصادية الطاقوية أساسا، التي نتجت عن الصراع الروسي – الأوكراني، ولكن أيضا بسبب انحسار الدور الفرنسي في العالم وإفريقيا والجزائر بالذات.
العالم تغيّر ولم يعد كما كان، والجزائر تغيّرت هي الأخرى وتتغيّر باستمرار، والموقف السياسي الذي كان يطالب من فرنسا فقط بالاعتراف بجرائمها في الجزائر والتعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية، تطور هو الآخر بعد اتضاح الأمر أن فرنسا لا تزال تفكّر بعقلية جيل الاستعمار، وأن نيتها في الاعتراف غير واردة، رغم أن مسألة التعويض لم تكن مطروحة بحدّة وقتها، إذ كان الموقف العام يطالب بالاعتراف فقط، أما التعويض، فيمكن تأجيل الخوض فيه لصعوبته وتعقيد تقديراته التي امتدت 132 سنة كاملة، إضافة إلى الامتيازات التي حصلت عليها فرنسا بعد الاستقلال والتي كان يمكن إعادة تقييمها.
كل هذا، جعل العلاقات مع الجزائر تكاد تتجمد في صقيع فرنسا الغارقة في أزماتها، المتأهب يمينها للانقضاض على ما تبقى من الجمهورية الخامسة، والتي قد تكون الماكرونية آخر حجر في حصن الديغولية في فرنسا، والدفع بالجزائر لكي تحضّر نفسها لما بعد مرحلة سقوط الجمهورية الخامسة، مطالبة بشكل صريح بالاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائم لا تسقط بالتقادم.
الشروق الجزائرية