ملفات وتقارير

"العمى الانتقائي".. فضائح إبستين تنسف مبررات غزو الدول بذريعة تمكين النساء

تقول صحيفة نيويورك تايمز إن رسائل إبستين تكشف ألاعيب النخبة الأمريكية وغضها الطرف عن الحروب الفاشلة- جيتي
تقول صحيفة نيويورك تايمز إن رسائل إبستين تكشف ألاعيب النخبة الأمريكية وغضها الطرف عن الحروب الفاشلة- جيتي
شارك الخبر
في مقال تحليلي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، قال الكاتب أناند غريداراداس إن القسم الأكبر من الشخصيات التي وردت أسماؤها ضمن مراسلات الراحل جيفري إبستين -الجاني المدان بجرائم جنسية- سبق لها أن غضت الطرف لعقود من الزمن عن أضرار جسيمة تسببت بها سياسات البيت الأبيض، ومنها الحروب الأمريكية الفاشلة، مؤكداً أن التغاضي عن جرائم إبستين بات مجرد حلقة ضمن سلسلة أطول من "العمى الانتقائي" الذي ميّز أداء نخبة من السياسيين والمليارديرات الأمريكيين.

ويشير غريداراداس إلى أن النخبة التي كانت تراسل إبستين لا تجمعها قيم سياسية أو أخلاقية مشتركة بقدر ما يجمعها ولاء طبقي متين، فشخصيات بارزة درجت على إعلان معارضتها للفساد واللامساواة، لكنها في السر كانت تطلب منه خدمات أو نصائح، وهو ما يفضح حجم الانهيار الأخلاقي داخل مؤسسات فرضت وصايتها على دول عدة بحجج اتضح زيف الكثير منها فيما بعد، كما حدث مع ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق.

أمريكا لا تستطيع العيش بدون حروب
على مدى السنوات العشرين الماضية، أسقطت الولايات المتحدة ما معدله 46 قنبلة وصاروخًا بشكل يومي على عدة دول من بينها أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن، وفق عناوين "عملية يقودها الجيش أو ضربات استباقية أو تدخلات إنسانية"، وهي مصطلحات لطالما رافقت أكثر من 400 حرب خاضتها أمريكا منذ تأسيسها عام 1776 وحتى عام 2019، بحسب دراسة نشرتها قناة "presstv".

اظهار أخبار متعلقة


ورغم ما أسفرت عنه تلك التدخلات العسكرية من فظائع ومآسٍ وملايين الضحايا، إلا أن تلك الهجمات كثيرًا ما كانت تجد لها واشنطن المبررات، مثل حماية أمنها من مخاطر تهدد مصالح أمريكا، أو أنها استجابة لدعوات ترسيخ "الحرية الدائمة للمرأة" ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلدان واقعة تحت حكم أنظمة تعسفية، وهو حراك كان لمنظمات نسوية لهن ارتباطات بالحزب الديمقراطي الأمريكي دورٌ أساسي في تلميع جهود الولايات المتحدة ومنحها صكًا لاحتلال بلدان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولا سيما العراق وأفغانستان، وفق بحث نشرته مجلة كولومبيا السياسية.

التدخلات الاستعمارية بعنوان الحرية
استخدام تمكين المرأة كذريعة للهيمنة الإمبريالية ليس بالأمر الجديد، ولطالما صُوّر الغرب على أنه موقع لتحرير المرأة، فيما قُدِّم الشرق على أنه مكان جغرافي للقمع، وهي ثنائية استغلتها الإمبراطوريات لتبرير غزواتها، وفي كثير من الأحيان للتغطية على أجنداتها السياسية والاقتصادية الأوسع للتدخل في شؤون الدول، وفي وقت كانت إدارات البيت الأبيض خلال العقود الثلاثة الماضية تضع خططها بشأن غزو بلدان بعينها وفق مفهوم تصدير الحرية وتحرير الشعوب من العبودية، فإن جزيرة إبستين بأرخبيل الكاريبي كانت تزخر بليالٍ من الجنس والاتجار بالبشر واغتصاب القاصرات، في ازدواجية معايير فاضحة.

وطرحت مجلة 972+ العبرية، في تقرير لها أمثلة على ذلك، ففي مطلع القرن العشرين، ادّعت الحكومة البريطانية أن المرأة المصرية كانت تُضطهد من قِبل ثقافة أبوية متشددة، وأنها بحاجة إلى البريطانيين لإدخالها في العصر الحديث، نظرًا لما زُعم من تقدم المرأة البريطانية في العصر الفيكتوري آنذاك (وهو ما كان وهمًا، نظرًا للقمع والحرمان من الحقوق الذي عانت منه المرأة في إنكلترا الفيكتورية).

وفي أوائل القرن العشرين، قال الكاتب الجزائري مالك علولة، إن الحكومة الفرنسية كلّفت مصورين صحفيين بالتقاط صور لنساء من السكان الأصليين في مجتمعات القبائل جنوب الجزائر وهنّ يرتدين الحجاب ويجلسن خلف النوافذ، وذلك لإظهار الرأي العام الفرنسي أن التدخلات الاستعمارية كانت ضرورية لإدخال المجتمع الجزائري، والمرأة على وجه الخصوص في الحداثة، وكُشف لاحقًا أن هذه الصور كانت مُعدّة مسبقًا.

تسويق "الإسرائيليين" على أن مهمتهم "حضارية"
هذه الأيديولوجية نفسها اعتُمدت لترسيخ المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين، بحسب المجلة. فبعد إعلان بلفور عام 1917، استخدم البريطانيون بشكل منهجي خطاب "الحكم الرشيد" من خلال وضع المستوطنين الصهاينة على أنهم مسؤولون عن "المهمة الحضارية" في فلسطين العربية. وكما أوضحت الباحثة الفلسطينية نورا عريقات في كتابها "العدالة للبعض"، كان أحد مفاتيح احتلال فلسطين هو الفرضية الأساسية التي تنفي وجود الشعب الفلسطيني كمجتمع، وتصوير من وُجد منهم على أنهم (متوحشون وبرابرة).

وصف غزو أفغانستان بـ"حرب عادلة"
رغم أن أفغانستان لم تخضع لنفس ديناميكيات الاستعمار الاستيطاني التي شهدتها فلسطين من حيث سلب الأراضي وتوطين اليهود بشكل دائم، إلا أنها خضعت لمنطق مماثل عبر التجريد من الإنسانية، ما أعطى شرعية للاحتلال العسكري المطوّل، حيث استُخدمت الخطابات المتعلقة بحقوق المرأة في أفغانستان، وتصوير القوات العسكرية الأمريكية كمنقذة للمرأة الأفغانية لتبرير الغزو، ومن الأمثلة على ذلك، ارتداء النائبة كارولين مالوني عن الحزب الديمقراطي "البرقع" في قاعة مجلس النواب الأمريكي آنذاك، معلنة أن الهجوم على أفغانستان "حرب عادلة" وليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى خوضها.

اظهار أخبار متعلقة


وفي عام 2003، أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن على غزو العراق اسم "حرب تحرير العراق" و "عملية حرية العراق" بمشاركة 295 ألف جندي من قوات الولايات المتحدة وحلفائها، وكان الهدف المعلن إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين الذي تصفه واشنطن بالديكتاتوري واستبداله بنظام سياسي ديمقراطي أحد أسسه تمكين المرأة ومنحها حقوقها. وكانت النتيجة أن العملية العسكرية، بدءًا من حرب الخليج الأولى وسنوات من الحصار، خلفت جيشًا من الأرامل يقدر بنحو ثلاثة ملايين أرملة، فيما قدرت وزارة المرأة العراقية التي أُلغيت في وقت سابق وجود ثمانية ملايين أرملة عراقية، جميعهن ما زلن يعشن حتى اليوم قصصًا لا تنتهي من المعاناة، معطوفة على الابتزاز والإذلال والاستغلال في الكثير من الأحيان.

التدخلات الاستعمارية متجذرة لدى الغرب
تقول الكاتبة هيلينا زيوري في تقريرها بمجلة 972+: إن القاسم المشترك بين كل هذه الخطابات هو تصوير التدخلات الاستعمارية على أنها متجذرة في أخلاقيات الإحسان والكرم لدى الغرب، وفي وقت صاغت فيه الولايات المتحدة مهمتها حول تصدير الحرية، ولاحقًا بناء الدولة لدى البلدان التي غزتها، إلا أن "نجاحاتها" في نهاية المطاف تمثلت في إثراء المقاولين الأمريكيين من القطاع الخاص الذين جنوا ثروات طائلة في صناعات استخراج المعادن ومشاريع التنمية الأخرى، وإثراء شركات الدفاع الأمريكية، بما في ذلك صناعة الذخائر.

ومع استمرار الكشف عن ملفات وصور شبكة إبستين، فإن الأمر يتعدى قصة ثراء فاحش لأمراء جمعهم تبادل النفوذ والمصالح، بل هي فضائح أظهرت للعالم هشاشة بنية تتقاطع فيها شبكات الاستخبارات ورأس المال وصناعة القرار، بعيدًا عن المساءلة والعقاب. فمن سجن مانهاتن الذي قيل إن إبستين انتحر فيه، إلى ساحات القتال في الشرق الأوسط، يواصل هذا الإرث تشكيل الجغرافيا السياسية، ولم يعد السؤال: من هم المتورطون بقدر ما هو فيما إذا كانت أمريكا قادرة على مواصلة تسويق نفسها على أنها دولة معنية بفرض مبادئ حقوق الإنسان في العالم بقوة السلاح؟!.
التعليقات (0)