يقال: فلان حائط قصير، أي لا قيمة له ولا
اعتبار، والكل يحتقره، ولا يأبه له، ولا يحترمه، ويقفز ويتطاول عليه، والرئيس
الأمريكي دونالد ترامب "مزنوق"، وعلى ذمة قاموس المعاني فالزُنق هو كلّ
رباط في جلدة تحت الفكّ الأسفل من الدّابة يُشدّ إلى الرَّأس. أو سَير تحت الذقن
يثبِّت الخُوذة في الرَّأس، ومزنوق هنا تعني أنه في ورطة وحيص بيص. ليس بسبب
التخبيص في أمر التعريفات الجمركية الشاملة لكل بلدان الكرة الأرضية، وليس لأنه ما
إن يفتح فمه حتى يفضح جهله بأمور الحكم والسياسة والعلاقات الدولية، ولكن لأن
العاهر الفاجر جيفري ابستين يشهد عليه من قبره، بأنه كان ضالعا معه في
علاقات
حميمة مع فتيات قاصرات، وتم حتى الآن تسريب 20 ألف رسالة الكترونية تبادلها ابستين
مع مختلف قرناء السوء، وشريكته في الإيقاع بالقاصرات غيلين ماكسويل، وفي العشرات
منها ترد معلومات بأن ترامب كان زبونا لحفلات ابستين الماجنة، وما تلك الرسائل إلا
قمة جبل الجليد، لأن الكونغرس الأمريكي طالب بنشر "ملفات" ابستين كاملة،
وترامب هنا هو المريب الذي يكاد يقول: خذوني.
في لحظات الزنقة يتعمد الحكام الفاشلون
اختلاق أزمات وأعداء خارجيين، ومنذ أسابيع وسلاح الجو الأمريكي يقصف كل زورق يمر
بمحاذاة الشواطئ الفنزويلية، بزعم أن عصابات تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة
تتخذ من
فنزويلا نقطة انطلاق، وأن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو شخصيا يمارس
الاتجار في المخدرات، ثم عقد ترامب اجتماعا مع القيادات العسكرية في بلاده لدراسة
ضرب فنزويلا في العمق، من منظور أنها الحائط القصير، لكون مادورو، وهو من نوع
وفصيلة مدمر ليبيا معمر القذافي، يعشق الكاميرات وظل على مر سنوات طوال يجاهر
بمعاداته لأمريكا، ولأنه يفتقر إلى الذكاء وفضيلة الحياء، فقد أصدر ترامب عفوا عن
الرئيس الهندوراسي السابق خوان أورلاندو هيرنانديز، والذي كان يقبع في سجن أمريكي
وعلى رقبته حكم بالسجن لـ 45 سنة، عقب إدانته بالتورط في تهريب أطنان من المخدرات
الى السوق الأمريكية.
وما يقال عن إن ترامب يستهدف فنزويلا طمعا
في ثروتها النفطية، به الكثير من حسن الظن بترامب، وفيه "تعمية" لدوافعه
المشار إليها أعلاه، لشن عدوان على فنزويلا، فالولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط
في العالم (14,8 برميل يوميا مقابل 10,8
للسعودية، و10,7 برميل لروسيا)، ومنذ عام 1975 تحتفظ الولايات المتحدة في خزانات
تحت الأرض سعتها ب716 مليون برميل نفط في ولايتي أريزونا وتكساس بمسمى المخزون
الاستراتيجي. وبرغم كل ذلك تستورد الولايات المتحدة بعضا من حاجاتها النفطية من
كندا والمكسيك والسعودية، ولو كان ترامب
قلقا حول توفّر البترول لمصانع وسيارات وآليات بلاده لما عامل كندا والمكسيك
باستعلاء واستخفاف.
هنالك مثل شعبي سوداني، يقول ما معناه أن
المرأة التي تعجز عن معاقبة زوجها، أو التصدي له في موقف ما، تعتدي على حماتها (من
باب فش الغل)، ولو كان ترامب معنيا حقا بحماية شعب بلاده من آفة المخدرات، لعمل
بمبدأ الدار قبل الجار، وعمل على تنظيف داره (بلاده) من عصابات توريد وتوزيع
المخدرات، فالأمريكان أكثر شعوب الأرض استهلاكا للمخدرات، ويقدِّر المكتب الوطني
لمراقبة المخدرات أن عام 2013 وحده شهد بيع كوكايين وهيرويين وأقراص هلوسة قيمتها
100 مليار دولار، وأن مطار لوس انجلوس الأمريكي هو المحطة المركزية الأولى في
العالم لاستيراد وتصدير المخدرات، وأن 195 مدينة أمريكية بها عصابات منظمة تتولى
تسويق المخدرات المجلوبة عبر المكسيك، وعلى رأسها الفنتانيل الذي أودى بحياة
80,411 أمريكي في عام 2021.
ترامب الذي يبحث عن قضية تصرف أنظار الرأي العام الأمريكي عن فضائحه الأخلاقية، وجد في فنزويلا حائطا قصيرا، لأنها مصنفة منذ صار هوغو شافيز رئيسا لها في عام 1999، كدولة معادية للولايات المتحدة، على أمل أن الدخان المتصاعد من الأهداف الفنزويلية المحترقة سيغطي على ملفات صديقه ابستين، الذي لا يعرف أحد يقينا ما إذا مات منتحرا او منحورا في السجن، الذي دخله مُداناً بتهمة الاتجار بأجساد بنات قاصرات- تلك الملفات التي لترامب فيها الكثير من "الذِّكْر".
تؤكد كافة التقارير الصادرة عن الكيانات
الأمريكية المعنية بمكافحة المخدرات، أنه ومن فرط استشراء المخدرات في الأراضي
الأمريكية فإن مئات الآلاف من الصبية، دون العشرين بكثير، يعملون في مجال بيع
المخدرات، وأن 85% من طلاب المرحلة الثانوية أقرّوا في استطلاعات بأنهم يحصلون على
مخدر الماريوانا بسهولة ويسر، ويفيد مسح شامل في عام 2023 الى أن أكثر من 49 مليون
أمريكي، خضعوا للعلاج لتخليصهم من ادمان المخدرات. وفي بلد يعتبر فيه حمل وحيازة
السلاح الناري لغير أغراض الصيد حقا دستوريا، لم يثر العجب أن ولاية أوريغون أباحت
حيازة كميات بسيطة من الهيرويين والكوكايين لـ "الاستخدام الشخصي"،
و"بسيطة" هنا كلمة مطاطية وغير معيارية، بعكس ما هو الحال مع مخدر
الماريوانا/ الحشيش، الذي يبيح القانون الأمريكي حيازة 24 جرام منه.
أكبر منتج للكوكايين في العالم هي كولمبيا،
وأكبر معبر للكوكايين والهيرويين الكولمبي إلى الأراضي الأمريكية هي المكسيك،
ومدينة مونتريال الكندية هي نقطة انطلاق معظم شحنات مخدر الفنتانيل إلى الولايات
المتحدة، وبمنطق الحجة التي يستخدمها ترامب لضرب زوارق فنزويلية مع الوعيد بشان
غارات على العمق الفنزويلي، فإن كولمبيا والمكسيك وكندا ـ وليس فنزويلا ـ تستحق
السحق بالقذائف والصواريخ الأمريكية، ولكن ترامب الذي يبحث عن قضية تصرف أنظار
الرأي العام الأمريكي عن فضائحه الأخلاقية، وجد في فنزويلا حائطا قصيرا، لأنها
مصنفة منذ صار هوغو شافيز رئيسا لها في عام 1999، كدولة معادية للولايات المتحدة،
على أمل أن الدخان المتصاعد من الأهداف الفنزويلية المحترقة سيغطي على ملفات صديقه
ابستين، الذي لا يعرف أحد يقينا ما إذا مات منتحرا او منحورا في السجن، الذي دخله
مُداناً بتهمة الاتجار بأجساد بنات قاصرات- تلك الملفات التي لترامب فيها الكثير
من "الذِّكْر".