يبدو أن العلاقات الدولية في العقود القادمة لن تكون لا ثنائية الأقطاب ولا مُتعدِّدة الأقطاب، ذلك أن هناك لاعبا ثالثا أخطر من الجميع بدأ يتدخل الآن ليكون القطب المركزي الذي يدور في فلكه الجميع بما في ذلك الدول الصغرى التي ليست لها قدرات في مجال المنافسة الدولية. هذا اللاعب الثالث هو الذكاء الاصطناعي! سيكون فوق الجميع وأعلى من الجميع، ولن تتحكم فيه الدول بقد ر ما سيتحكم فيه أفراد يملكون مراكز البيانات الضخمة وشبكات نقل المعلومات.
ولذلك تجد الآن الصراع محموما بين كبرى الشركات العالمية لبناء مثل هذه المراكز استعدادا للسيطرة على بيانات البشرية جمعاء، فضلا عن سعيها للتحكم في الشبكات المُسيِّرة التي تنقل هذه البيانات مثل (Global Hyperscale Grid) بالنسبة للشركات والدول الغربية و(The Great Digital Wall) بالنسبة للصين. بما يعني أن الذكاء الاصطناعي التي ستُنتجه هذه الشبكات سيتحول في المستقبل القريب من مجرد تكنولوجيا يتحكم فيها الإنسان إلى فاعل بُنيوي، أي قوة سياسية اقتصادية عسكرية إعلامية عالمية!
وبهذا يكون الذكاء الاصطناعي اليوم قد اقترب من لعب دور الإمبراطوريات التاريخية! ذلك أنه أصبح يتجاوز الدولة الوطنية في كثير من المهام وسيتجاوزها أكثر في السنوات القادمة مما سيجعله يمتلك القدرة على التأثير في قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية والأمنية لديها… وتدريجيا سيُصبح قادرا على التدخل في قراري السلم والحرب الدوليين متجاوزا إرادة البشر الذين صنعوه، ومنه ستُصبح الدول تسعى لربط علاقات ودية معه خوفا من سيطرته عليها، وبدل أن تكون لها علاقات صداقة أو عداء مع بعضها البعض ستتحول إلى أن تُصبح علاقاتها مع الذكاء الاصطناعي ودية أو محايدة أو في حالة صراع!
وهنا تُطرَح وضعية الدول النامية أو الأقل تقدما أو الفاشلة، كيف سيتعامل معها هذا القطب الثالث وكيف ستتعامل معه؟
يبدو أن المعضلة ستكمُن هنا، إما أن هذه الدول تستبق من الآن التطورات لكي تكون لها مكانة في عالم الغد أو ستُسيطِر عليها امبراطورية الذكاء الاصطناعي القادمة، وتنتزع منها جميع قرارات السيادة في مجالي السلم والحرب وكافة الشؤون الداخلية!
ولعل هذا أخطر ما يمكن أن ينتظرنا غدا، إذا لم نأخذ مثل هذه التطورات بالجدية اللازمة.
إن السيطرة على الإقليم اليوم وتسيير المنشآت الاقتصادية والإدارات والمرافق العامة كالنقل والمحاكم والجامعات والمدارس والمستشفيات وغيرها تتجه نحو الاعتماد بدرجة أو أخرى على الذكاء الاصطناعي، فكيف للاعب عالمي مثل هذا ألاَّ يُصنَّف ضمن الأقطاب الدولية الأكثر تأثيرا؟
لقد بيَّنت تقارير إعلامية كيف بات الذكاء الاصطناعي مشاركا في الحروب العسكرية والاقتصادية والإعلامية اليوم متجاوزا الجيوش الرسمية والحكومات، وكيف بدأ يتدخل من خلال أدواته الخاصة الحروب آليا كما حدث في غزة في العدوان الذي مازال قائما إلى حد الساعة من خلال نظامي The Gospel و Lavender (انظر حلقتنا استشرافات بالشروق نيوز في هذا الشأن)!… كما بينت تقارير أخرى أن دولا صغرى يبدو أنها تفطنت للمستقبل قبل غيرها باتت تركز على تطوير قدراتها في هذا المجال استعدادا للقادم، تحتضن مراكز بيانات ضخمة وتستقطب علماء من كافة أنحاء العالم لكي لا تجد نفسها ذات اليوم على هامش هذا القطب الثالث أو في صراع غير متكافئ معه.
وعليه يُصبح لزاما علينا التفكير بطرق أخرى لنحتفظ بمكانة لنا ضمن هذا التسارع الكبير الذي يعرفه العالم في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة.
إن الأمر لا يتعلق فقط بإيلاء الموضوع أولوية ضمن برامج التعليم والتدريب، بل اعتباره مسألة حيوية من أجل البقاء، وليس في هذا أدنى درجة من التضخيم والمبالغة والخيال، إنما هي حقائق الواقع التي ينبغي أن نراها بكل شجاعة إذا أردنا أن يكون لنا أمل في قادم العقود…