مقالات مختارة

كذبة "المجتمع دولي"

سعد الله مزرعاني
وفا
وفا
من قبيل «الضحك عالدقون»، أو «تغطية السماوات بالقبوات»، أو «التذاكي والشطارة»، أو إدمان مجانبة قول الحقيقة، يجري من قبل أوساط سياسية، وإعلامية خصوصاً، نسبة كل مطالب واشنطن وتل أبيب إلى «المجتمع الدولي».

كان مسمى «المجتمع الدولي» يُطلق على الأكثرية المؤثرة في العالم. كانت تلك الأكثرية أيضاً تجنّد في خدمة مواقفها وفي إضفاء الشرعية عليها وسط توازنات نسبية، مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة: الجمعية العامة، مجلس الأمن، المؤسسات الأخرى المنبثقة عنها: أي كل وكالات الأمم المتحدة. هذا إلى مراكز مدنية معترف، ولو جزئياً، بحياديتها وحتى نزاهة بعضها.

بعد هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وإثر حلول «الأمم المتحدة» محل «عصبة الأمم»، جنح قادة الغرب الاستعماري نحو السيطرة والتحكم والاحتكار. وهكذا بدأ قادة الحقبة الاستعمارية السابقة استقطاباً دولياً جديداً. أنشأوا الأحلاف الدولية، السياسية والعسكرية، لتطويق وعزل ومحاولة إسقاط الاتحاد السوفياتي ونظامه ومنظومته.

رفع الاتحاد السوفياتي، المتوسع بنتيجة الحرب -بمعزل عن مستوى نضوج العامل الطبقي والثوري المحلي في البلدان التي حررها من النازية-، شعار «التعايش السلمي بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة». كان ذلك من أجل محاصرة النزعة العنفية الغربية، ومن أجل تفادي حرب جديدة، مدمرة أكثر في المرحلة النووية التي بدأتها واشنطن.

وما لبثت موسكو أن انضمت إليها في عملية سباق تسلح لم تتوقف حتى اليوم، رغم كل التبدلات الهائلة! استخدمت القوى الاستعمارية، لهذا الغرض، وسائل قديمة ومستحدثة، منها: إنشاء الأحلاف الكونية والقارية والإقليمية، والتدخل العسكري المباشر كما في كوريا وفيتنام، والانقلابات العسكرية، وكان أبرزها في إيران ضد حكومة «مصدق» المنتخبة عام 1953، وفي التشيلي ضد الرئيس المنتخب أيضاً، «سلفادور أليندي» عام 1973... الاغتيالات، ومحاولات الاغتيال، والمؤامرات التي استهدفت قادة وزعماء في حركات التحرير والتحرر الناشطة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

في الأثناء، اجتاز الاتحاد السوفياتي مخاضاً شابَهُ عدد من الصعوبات أو الإخفاقات، كما استطاع تحقيق عدد من النجاحات، خصوصاً في مواجهة النزعة التسلطية الإمبريالية بقيادة واشنطن. وتجاوز خسائر العدوان النازي وحقق انتصاراً بفاعلية هي الأهم.

وفرض ثنائية قطبية، وأنجز نجاحات رائدة في غزو الفضاء، وفي التصنيع، وحمى الثورة الكوبية، وقدم مساعدات ثمينة لحركات التحرر، التي حقق بعضها انتصاراً مدوياً على التدخل العسكري الأميركي، كما في فيتنام. وساعد قوى التغيير وواكبها بدعم سياسي واقتصادي كما حصل في التجربة المصرية: من إنذاره الشهير لقوى «العدوان الثلاثي» عام 1956، إلى بناء «السد العالي»، إلى تقديم الدعم الاقتصادي المباشر لاختراق الحصار الغربي، إلى «كسر احتكار» السلاح...

حرب «باردة» خيمت على الوضع الدولي بين واشنطن وموسكو ومعسكريهما. في مجرى ذلك، كانت تتوسع وتتعمق وتتجذَّر حركة التحرر في المستعمرات السابقة، من أجل استكمال الاستقلال السياسي، ومباشرة الاستقلال الاقتصادي عبر برنامج وخطط التنمية والبناء وتحرير الثروات والتأميم...

ونشأ في امتداد ذلك مركز دولي جديد، هو «حركة عدم الانحياز» (1961) بقيادة زعماء وقادة كبار كنهرو في الهند، وجمال عبد الناصر في مصر، وتيتو في يوغوسلافيا... ساعدت هذه الحركة الكبيرة والواسعة في تعديل التوازن الدولي لمصلحة نضال الشعوب، وفي دعم قضايا التحرر في العالم، وفي تصفية بؤر الاستعمار المتبقية، وفي دعم كفاح الشعوب ضد العنصرية والتمييز العنصري كما في جنوب أفريقيا.

وحظيت القضية الفلسطينية باهتمام أكبر، وبرزت منظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطيني، في مواجهة تآمر أطلسي غربي، واستعمار استيطاني صهيوني، هو في الوقت نفسه اغتصاب وبناء لقاعدة عسكرية غربية موجهة ضد قوى تحرر الشعوب العربية، والسيطرة على «الشرق الأوسط الكبير» الممتد من موريتانيا إلى باكستان.

استمر الأمر على هذا النحو حتى أواخر الثمانينيات، حين تلاحقت بوادر انهيار الاتحاد السوفياتي، عبر التوجهات التي كان غورباتشوف أداتها الأساسية، بعد تراكم صعوبات وأخطاء في حقول متعددة.
انهارت الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفياتي، وانهارت منظومته الأوروبية بالكامل. وصمدت فقط التجارب التي كان طابعها تحررياً عاماً: في الصين وفيتنام وكوبا وكوريا. هذه جنحت جميعها (ما عدا كوبا كاسترو) نحو التكيف مع «السوق»، وتراجع دور الأحزاب الشيوعية بشكل كبير ومتفاوت عموماً.


تفردت واستفردت واشنطن بالزعامة الدولية، وجنحت التيارات الأكثر جشعاً نحو استخدام القوة وسيلة لتعظيم السيطرة الاقتصادية والسياسية. فظهرت نظرية «الحروب الاستباقية» أو الوقائية. غزو واحتلال العراق (بعد أفغانستان) كان اختباراً أول، استهدف الشرق الأوسط كله! فتمّ تحجيم أو تجاهل المؤسسات والشرعية الدولية لمصلحة الوحدانية الأميركية. لكن مناهضة الجموح الأميركي بدأت بالتبلور، من روسيا، عبر دور جسّده الرئيس فلاديمير بوتين، ومن الصين، إذ تمثّلت في تعاظم نجاحاتها في المجال الاقتصادي الشامل.

واشنطن وفريقها عمدا إلى تعطيل المؤسسات الدولية بعد تعذر استخدامها وتسخيرها كما حصل في مراحل سابقة. وبلغ ذلك ذروته في الموقف من حقوق الشعب الفلسطيني ومن مجمل قضيته. وواظبت واشنطن على تأييدها المطلق للإبادة الجماعية في غزّة خصوصاً، فعطّلت 7 مرات قرارات لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن. وتباعاً باتت وحدها بالكامل في هذه المهمة القذرة.

«المجتمع الدولي» بات مشلولاً بتعطيل واشنطن لمؤسساته: مجلس الأمن، والأمم المتحدة، ووكالاتها الإغاثية والقضائية... يمكن القول واقعياً، إنه بات على نقيض السياسة الأميركية التي انسحبت من بعض المؤسسات، وقاطعت بعضها الثاني وقطعت التمويل عن أخرى، وهاجمت وعاقبت بعضها الرابع، كوكالة «الأونروا» و«محكمة العدل الدولية» و«المحكمة الجنائية الدولية».

ما ينسب إلى «المجتمع الدولي» في إعلامنا المأجور وسياستنا البائسة والخاضعة، هو محض أميركي. أما في المنطقة العربية، وحرب الإبادة الصهيونية الأميركية ضد غزة، فهو محض إسرائيلي!

يلخص ذلك ما ردده مراراً الرئيس الأميركي السابق جو بايدن من أن 80% من أسباب عزلة واشنطن في العالم هو نتيجة دعمها لإسرائيل! وما يردده الرئيس الحالي ، وكان أحد أهم أسباب خطته لوقف المقتلة، بعد الصمود الفلسطيني المدهش، عندما ردد مخاطباً علانية نتنياهو: «لا تستطيع الاستمرار في مواجهة العالم». طبعاً كان الحري به أن يقول «لا نستطيع».

الأخبار اللبنانية
التعليقات (0)