ليس أي صراع ذاك الذي تخوضه غزّة. إنه الصراع الأكثر ضراوة في التاريخ: لجهة المدة الزمنية المتطاولة، والقوى المعادية العاتية المنخرطة، والأسلحة الفتّاكة والمتفوّقة والذكية المستخدمة، والأساليب المتطورة المسخّرة، والتي تتكامل سوياً لتجدّد التأكيد بأن الذي يجري من قتل ودمار وحصار وتجويع... قد أخذ، منذ حوالى السنتين، شكل حرب إبادة ضارية هي الأبشع والأكثر همجية ووحشية في كل الأزمنة.
ليست أي قضية تلك التي يدور حولها الصراع. إنها قضية فلسطين وشعبها: الأعدل والأوضح. هناك على أرض الرسالات والمقدسات، يتم استهداف شعب بالكامل: في وطنه وأرضه وممتلكاته وتاريخه وبشره وعمرانه... ثم هو يلاحق، إلى حيث فُرضت عليه الهجرة بعد المجازر والتنكيل، ليُمارس ضده التمييز والقمع والاغتيالات والإذلال والإفقار... أمّا الهدف، فقتل ذاكرته وتبديد آماله وتصفية كيانه الوطني والإنساني، عبر مسار إجرامي متواصل منذ أكثر من قرن.
ليس أي أعداءٍ أعداءَ الشعب الفلسطيني المباشرين: أولهم قوة الشر الأخطر في عالمنا المعاصر: الحركة الصهيونية العالمية التي تملك مقدرات ونفوذاً هائلين، عبر أخطبوط مؤسسات ممتدة ومتغلغلة في أكثر القطاعات حيوية في دول المتروبول الاستعماري وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية.
أي شركاء وحلفاء لهذه الحركة الخبيثة: أنها، أولاً، أكبر وأعتى قوة في التاريخ، وعبر معادلة غريبة تجعلك تتساءل بدهشة: من يتحكّم في من؟ هل هي الحركة الصهيونية من يتحكّم في القرار في واشنطن وفي الغرب الأطلسي؟ أم أن واشنطن، كزعيمة للغرب الاستعماري، هي التي تقود معركة العدو الصهيوني ضد شعب فلسطين؟ أم أنهما قد «تشابها فتشاكل الأمر» كما قال أبو نوَّاس!
مَن الأكثر تطرّفاً ودموية: نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وقطيع المستوطنين العنصريين... أم الرئيس ترامب
وفيما تقود كيان العدو أكثر حكومة تطرفاً وعنصرية وفاشية، يجدر التساؤل، مَن الأكثر تطرّفاً ودموية: نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وقطيع المستوطنين العنصريين... أم الرئيس
ترامب الذي دأب على التهديد، منذ بداية ولايته، حتى مشروعه الأخير، ودائماً في ظل تمادي حرب الإبادة والتدمير الشامل ضد الأطفال وضد كل حي وعمران، بالويل والثبور، إذا لم تُفرج
المقاومة الغزّاوية عن 20 أسيراً وتستسلم، وإذا لم يحصل هو على جائزة نوبل للسلام!
وليس أي خذلان ذاك الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني، من الأقربين قبل الأبعدين، إنه مزيج لعين ولئيم من التواطؤ والتآمر والخداع.
مَن هو الطرف الثاني في ذلك الصراع؟ إنه، في هذه المرحلة التي تكاد تنهي عامها الثاني، ثلة من الرجال الرجال، في قطاع محصور ومحاصر منذ حوالى عقدين من الزمن. رغم ذلك تمكّن أبناء غزَّة من أن يفرضوا على إسرائيل وحماتها والمتواطئين، أطول حروبها وأكثرها كلفة. اجترحوا، ويواصلون، بآلام ومعاناة مدهشة، تضحيات وصموداً وبطولات لا توصف.
دخلوا تاريخ ثورات شعوب سبقتهم (ولو بأثمان أكبر) فصنعوا روايتهم التراجيدية الملحمية التي باتت، في هذه المرحلة، قضية العالم الجديدة والطاغية في الرواية الأبدية للصراع: بين الظلم والعدالة، وبين الهمجية والحضاره، وبين الحق والباطل. اعترف المستشار الألماني بأن إسرائيل قد «نابت عن الغرب في ممارسة المهمات الأكثر قذارة». بالمقابل، فإن
غزة قد حملت عن العالم وزر التصدّي لأكثر الحركات وحشية في كل العصور. غزة اختصرت وتختصر المسافات.
الأقنعة الزائفة تسقط تباعاً عن الحركة الصهيونية. إمبراطور العالم دونالد ترامب، يجلس وحيداً، منبوذاً، وعاجزاً، حيال ملحمة التضحيات والبطولات التي يسطّرها الشعب الفلسطيني. امتزاج البطولات العظام بالتضحيات الجسام، على نحو تراجيدي وخلاق، هو الممر الإجباري لصنع التحولات الكبرى في التاريخ: سواء اتخذت طابعاً روحانياً دينياً، أو طابعاً وضعياً كما في تجارب الشعب الفيتنامي والجزائري والجنوب أفريقي والسوفياتي (في مواجهة الغزو الهتلري) والفلسطيي راهناً.
إنّ ما يجتاحُ العالمَ اليوم من تحركات ومظاهرات ومواقف ومبادرات، تخطّى كل الحسابات. العدو الصهيوني يعاني من أزمة وجودية أكثر ما عبّر عنها، سياسياً، مشهد قاعة الاجتماعات الفارغة فور صعود نتنياهو إلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية الأسبوع الماضي. أمّا حماته وأربابه، فيعانون من أزمة إنسانية وأخلاقية غير مسبوقة تتعدّى أشخاصهم لتطاول أُسس نظامهم الاستغلالي النيوليبرالي المتوحش.
بسبب ذلك كانت مبادرة الرئيس ترامب. وهي مناورة جديدة أطلقها الرئيس الأميركي العنصري باسم إدارته وباسم كل داعمي العدو الصهيوني وشركائه في حرب الإبادة. المبادرة ترمي إلى تحقيق أهداف عدة:
أولها، كبح واحتواء الحملة الشعبية العالمية الهائلة الموجهة ضد حرب الإبادة وداعميها في الأنظمة الغربية والمتواطئة.
ثانيها، تقليص خسائر العدو وتمكينه من أن يحقق، بالمناورات والخداع والضغوط السياسية، ما عجز عن تحقيقه في المواجهة الميدانية، رغم تفوقه العسكري الكبير.
ثالثها، توفير فرصة لواشنطن، قد لا تتكرر، من أجل الدمج ما بين مشروعها (ذي الصيغ المتعددة والجوهر الواحد) لإحكام السيطرة على الشرق الأوسط، وبين وضع مشروع «إسرائيل الكبرى» التوراتي الصهيوني موضع التنفيذ.
مبادرة ترامب لن تكون، وينبغي ألا تكون، نهاية للصراع، بل أحد محطاته. غزة اختصرت المراحل عبر إسهامها ونموذجها وتضحيتها وبطولاتها في هذه المرحلة التاريخية. إننا نعيش في زمن غزّة. بئس مَن كان في الجانب الخطأ، من معادلة الشرف والتضحية والصمود التي رسمها شعبها، ورسّختها مقاومتها، وخطّها مدنيُوها (كل مدنييها) ومشاركوها معمودية الدم والتضحيات والشرف والكرامة.
إذا كانت حكومة العدو الغاشية قد «نابت» عن الغرب الأطلسي في «تنفيذ المهمات القذرة» كما قال المستشار الألماني، فإن مقاومة غزة قد نابت عن كل قوى التحرر والحرية والعدالة في التصدي للوباء الصهيوني وفضحه وداعميه، وخصوصاً واشنطن، ولو بأغلى الأثمان.
التضامن مع غزة، وكل قضية الشعب الفلسطيني، ينبغي أن يستمر أولوية حاسمة. كل الثقة بأن المقاومة، في غزة خصوصاً، ستواصل صنع المستحيل، رغم هول المعاناة وفداحة الخسائر وتعاظم إجرام الصهاينة وشركائهم.
الأخبار اللبنانية