لا يزال الجدل مستمرا في
تونس وخارجها حول مدى شرعية مجلة الأحوال الشخصية
التي حرص الرئيس
بورقيبة على إصدارها بعد الإعلان عن الاستقلال مباشرة. وأذكر أن
الإسلاميين وغيرهم في تونس وخارجها، هاجموا هذه المجلة دون تثبت وتمحيص، واعتبروها
مملاة من قبل المستعمر الفرنسي بهدف تفكيك الأسرة التونسية على أيدي "عملائها"،
واحتاج الأمر إلى وقت طويل ليدرك البعض أن الخطاب الإسلامي عموما لا يزال يرفض
عديد الأحكام الواردة في هذه المجلة، والتي تعطي حقوقا اعتبرها الكثيرون نوعا من
التجديف الديني ومساسا من "المقدسات".
الذي يطلع على كتاب الكاتب الصحفي اللامع لطفي حجي "البورقيبية من
الداخل" الذي صدر قبل أشهر، يجد نفسه أمام معطيات تاريخية ودينية واجتماعية
قد تجعله يعيد النظر في هذه المسألة بالذات. فالكاتب أجرى حوارات مع ثلاث من كبار
المسؤولين الذين عملوا مع الرئيس بورقيبة، من بينهم أحمد المستيري الذي سيكون له
شأن مهم فيما بعد وسيصبح مؤسسا للديمقراطية في تونس، وهو الذي أحدث شرخا عميقا في
صفوف الحزب الدستوري الحاكم. لقد تم تعيين المستيري، رغم صغر سنه، وزيرا للعدل في
أول حكومة تونسية بعد الاستقلال.
المعلوم عند التونسيين أن مجلة الأحوال الشخصية "هي مشروع بورقيبة"، لكن "مهندس بنائها والمشرف على صياغة فصولها كان المستيري الذي أكد في حواره على أن بورقيبة اطلع على بعض فصول المجلة كما اطلع عليها غيره"
يقول حجي إن المعلوم عند التونسيين أن مجلة الأحوال الشخصية "هي مشروع
بورقيبة"، لكن "مهندس بنائها والمشرف على صياغة فصولها كان المستيري الذي
أكد في حواره على أن بورقيبة اطلع على بعض فصول المجلة كما اطلع عليها غيره".
وأهم ما فعله هذا الرجل بعد تكليفه بالوزارة، هو الشروع في إعداد مجلة قانونية
ستقلب أوضاع الأسرة التونسية، وأول ما فعله هو الاتصال بعدد من كبار المشايخ مثل عبد
العزيز جعيط والطاهر بن عاشور.
وخلافا للاعتقاد السائد، لم يتدخل بورقيبة في أعمال اللجنة التي تشكلت
للغرض والتي كانت متنوعة، وتفاعل إيجابيا مع بعض الفصول التي صاغتها اللجنة بإشراف
المستيري، مثل "تحديد السن الأدنى لزواج
المرأة، وموافقتها على الزوج، ومنع
تعدد الزوجات، وضرورة عرض الطلاق على القاضي حتى لا يبقى إجراء شفويا". لكن
بورقيبة تحمس بالخصوص مع مسألة منع تعدد الزوجات، ورفض الصيغة التي كان المستيري
يفضل إقرارها والتي أوردها في شهادته، وتتمثل في حل وسط يتمثل في "إبقاء
إمكانية التعدد مع فرض شروط صعبة التحقق"، و"أصر على موقفه في المنع
البات".
كما اعتبر الكاتب أن المستيري ابتعد عن استنساخ القانون الفرنسي، ومن جهة
أخرى أشار إلى أن محاولات سن مشروع قانون موحد للأسرة "كانت سابقة لبورقيبة،
ومنها مشروع أعده الشيخ عبد العزيز جعيط". وفي ذلك تأكيد على أن التيار
المستنير داخل المؤسسة الزيتونية كان مدركا لأوضاع المرأة التونسية المزرية قبل
الاستقلال، وساهم بفعالية في إحداث نقلة ستبرز فيما بعد عندما ستتوفر الشروط
السياسية الملائمة. وقد تم استغلال ذلك الجهد من قبل القيادة السياسية، وذلك بإضافة
بعض الأحكام التي أثارت الجدل، واعتبرها التيار المحافظ -ولا يزال- مخالفة للنصوص
الدينية وللمدونة الفقهية.
التسرع في صياغة المواقف وإصدار أحكام مسبقة على التجارب والأشخاص لن يساعد على فهم التاريخ والأشخاص، وأنه يوقع أصحابه في مغالطات رهيبة
وهذا يعني أن النخب الحديثة لم تنفرد بالدعوة إلى بث
الوعي الوطني والنهوض بالبلاد، بل تزامنت تلك الجهود مع مراجعات قامت بها شخصيات
زيتونية تحمل نفسا اجتهاديا، وتجرأت على تراث تجاوزه الزمن، ودعت إلى ضرورة ربط
المطلب السياسي بالمسألة الاجتماعية والدينية.
في ذات السياق، يتبين من خلال حوار المستيري، أن بورقيبة المعروف بجرأته البالغة
لم يقطع مع المرجعية الإسلامية، رغم سعيه الحثيث نحو إضعاف المؤسسة الدينية وتهميشها،
والدليل على ذلك المبادئ الثمانية التي تم الاعتماد عليها منهجيا من قبل لجنة
الإعداد لتأطير الاجتهاد الذي ستعتمده مجلة الأحوال الشخصية في روحها ونصها. ومن
هذه المبادئ "عدم مخالفة الأحكام القرآنية عندما يتولى المشرّع تحديد حق
اختياري موكول إلى المسلم"، وبناء عليه "لا يجوز تبديل الحلال حراما،
لكن المشرع يستطيع تقييد الحلال أو منعه، وتسليط العقاب الجزائي على من يخالف
المنع". وحتى لا تختلط التجارب، أكد المستيري على أن "المفاهيم التونسية
تختلف عن المفاهيم التركية التي فرضها كمال أتاتورك فرضا بعنوان اللائكية". وفي
ذلك رد على الذين يخلطون المفاهيم والأوراق بهدف سحب الشرعية والمشروعية من
التجربة التونسي.
بعد قراءة هذا الكتب بأجزائه الأربعة، يخرج القارئ بنتيجة مفادها أن التسرع
في صياغة المواقف وإصدار أحكام مسبقة على التجارب والأشخاص لن يساعد على فهم
التاريخ والأشخاص، وأنه يوقع أصحابه في مغالطات رهيبة، وتجعلهم في نهاية المطاف
يلاحقون الزمن من أجل تصحيح مواقفهم والاعتراف بكونهم أخطأوا الفهم وسلكوا اتجاها
معاكسا لحركة التاريخ.