كتاب عربي 21

انتفاضة قابس.. بين مخاوف السلطة وحسابات المعارضة في تونس

صلاح الدين الجورشي
"تواجه السلطة حاليا اتساع رقعة الاحتجاج"- الأناضول
"تواجه السلطة حاليا اتساع رقعة الاحتجاج"- الأناضول
تونس مريضة بملفاتها القديمة والجديدة، ففي اللحظات التي كان رئيس الجمهورية يتجول في شوارع مدينة بنزرت الواقعة في شمال البلاد احتفالا بعيد الجلاء، كانت مدينة قابس الواقعة في الجنوب تعيش تحت وقع مواجهة عنيفة بين سكانها المعروفين بالطيبة والوداعة وبين أجهزة الأمن المكلفة بمحاربة الشغب. في ذلك اليوم تظاهر أربعون ألف مواطن أو يزيدون، يطالبون بحقهم في بيئة سليمة وغير مميتة. ورغم الطابع السلمي لهذه للمسيرة، أفسدها وابل القنابل المسيلة للدموع التي أطلقت دون تميز بين الرجال والنساء، ولم تستثن الأطفال والشيوخ، وهو ما كاد أن يؤدي انعدام الثقة بين الأهالي الجهة والسلطة الأمنية والسياسية. فما القصة؟

بدأت الحكاية في عهد الرئيس بورقيبة حين تم إنشاء مجمع كيميائي مختص في تحويل الفوسفات إلى حامض فوسفوري في مدينة قابس الجميلة، وكان ذلك إنجازا رائعا استقبله السكان بكل تفاؤل، واعتبروه من بين إنجازات مرحلة ما بعد الاستقلال. لكن مع توالي الإنتاج تبين أنه مع كل طن من مادة الفوسفات يتم إلقاء خمسة أطنان من الفسفوجيبس التي يتم رميها في مياه البحر. ويقول الخبراء إن تفتيت هذه المادة له تداعيات خطيرة وسامة على الطبيعة بجميع مكوناتها،
الغريب أن بعض المعلقين السياسيين الموالين للسلطة يحاولون الزعم بأن الاسلاميين عملوا على توظيف هذه الاضطرابات من أجل عودتهم إلى الواجهة، رغم أن كل ما يجري يدل على كونها احتجاجا عفويا ومحليا وله أسبابه الموضوعية
وكذلك على الكائنات الحية وفي مقدمتها السكان. واستمرت هذه العملية عشرات السنين، الى أن تفشى السرطان وغيره من الأمراض، فقرر أهل المدينة وضع حد لهذه الوحدات التي تفترسهم يوما بعد يوم، رغم الدخل الوفير الذي تقدمه لميزانية الدولة.

رغم أن الرئيس قيس سعيد غير مسؤول عن هذه الأزمة التي ورثها عن الحكومات السابقة، لكن المواجهة الأمنية قلبت المزاج العام وخلقت حالة من التوتر الشديد بين سكان الجهة ورئاسة الجمهورية. كما جنح الإعلام الرسمي نحو التشكيك في الدوافع الكامنة وراء هذا التحرك الاحتجاجي، والادعاء بوجود أطراف معارضة وخارجية تعمل على تأجيج الأوضاع من أجل المسّ بالنظام القائم. ومن الغريب أن بعض المعلقين السياسيين الموالين للسلطة يحاولون الزعم بأن الاسلاميين عملوا على توظيف هذه الاضطرابات من أجل عودتهم إلى الواجهة، رغم أن كل ما يجري يدل على كونها احتجاجا عفويا ومحليا وله أسبابه الموضوعية.

رغم هذه الادعاءات لم يتغير المشهد القائم، حيث تم اعتقال العشرات من المحتجين، وتعرض بعضهم للتعذيب حسبما أكدته الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهيئة المحامين ومؤسسات المجتمع المدني. مع ذلك صمد الأهالي وبقوا يطالبون بتفكيك وحدات الإنتاج المتسببة في التلوث القاتل، ويرفضون المزيد من التأجيل والتسويف. لهذا قرر رئيس الدولة تشكيل لجنة للبحث عن حلول، لكن المحتجين لم يقنعهم هذا الأسلوب في التعامل مع الأزمة العميقة، وأصروا على النزول إلى الشارع كوسيلة وحيدة للتعبير عن الغضب، وقرروا "مقاطعة أعمال اللجنة" المكلفة "بالقيام بالإصلاحات ومحاولة إعادة تهيئة المجمع الكيميائي المهترئ"، ورأوا في ذلك "ضربا من ضروب التسويف والترقيع، وهي سياسات لا تواجه الأزمة بل تحاول التعتيم عليها"، حسب البيان الذي صدر عن أبناء الجهة. ونظرا لخطورة الوضع، عبّر العديد من أنصار الرئيس سعيد الذين دافعوا عنه قبل توليه الرئاسة وبعدها، عن خيبة أملهم.

ما يحدث في قابس يشبه ما حدث في مناطق أخرى في البلاد، فالأزمات المتتالية هي نتيجة فشل النمط التنموي الذي تم اعتماده منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي. والأكيد أن من أهم العوامل التي تفسر اضطراب السلطة وعدم قدرتها على اتخاذ إجراءات عميقة وجذرية، هو الوضع المالي والاقتصادي المتردي الذي تعاني منه الحكومة. يضاف إلى ذلك أن التخلي عن هذه المؤسسة الاقتصادية من شأنه خلق ثقب أسود في الميزانية،
ما يحدث في قابس يشبه ما حدث في مناطق أخرى في البلاد، فالأزمات المتتالية هي نتيجة فشل النمط التنموي الذي تم اعتماده منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي
وإحالة عدد كبير من العمال على البطالة. لهذا تحاول السلطة الاستنجاد بالصين عسى أن تساعدها من أجل الوصول إلى حل.

تواجه السلطة حاليا اتساع رقعة الاحتجاج الذي أصبح شبيها برقعة الزيت، بعد أن تم التنسيق بين عديد الجمعيات التي نظمت احتجاجا أمام المقر المركزي للمجمع الكيمياوي في العاصمة، وطالبت بإطلاق سراح المساجين. كما قرر فرع الاتحاد الشغل بقابس تنظيم إضراب عام جهوي، وأُطلقت الدعوات من أجل تنظيم مسيرات احتجاجية بكامل الجمهورية. وهذا النمط من التضامن تخشاه السلطة وتدينه، لأنه يعيد إلى الأذهان ما حدث قبل خمسة عشر عاما، وأدى إلى انفجار الأوضاع بين 26 كانون الأول/ ديسمبر و14 كانون الثاني/ يناير. وهو سيناريو يحلم بتكراره عدد واسع من خصوم الرئيس قيس سعيد، وقد أشار إلى ذلك بنفسه حين وصف خصومه من جديد بـ"المناوئين والمتآمرين الذين يتخبطون ويتلونون، حيث تغدق عليهم أموال من الخارج حتى يكونوا أبواقا مهجورة".

لكن في المقابل، يعتقد هؤلاء الخصوم بأن التحركات الاجتماعية الكبرى يمكن أن تخلف وراءها آثارا من شأنها تغيير ملامح الأوضاع القائمة. ومن أجل الوصول إلى هذه النتيجة، تراهم يدفعون نحو تعميق التناقض بين السلطة والمواطنين عسى أن تحصل القطيعة، ويتغير المشهد برمته.
التعليقات (0)

خبر عاجل