صوت مجلس الأمن بموافقة أحد عشر عضوا، وامتناع ثلاثة (الصين
وروسيا والباكستان)، وعدم مشاركة
الجزائر، على مشروع القرار الأممي رقم 2797 (2025)،
القاضي بإقرار مبادرة
الحكم الذاتي في إطار السيادة
المغربية، التي تقدمت بها المملكة
المغربية منذ العام 2007، وبهذا شكّل يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 حدثا نوعيا فاصلا
في تاريخ تطور نزاع عمر نصف قرن (1975 -2025)، أُهدرت معه الأموال، وضاعت الجهود، وتعمقت
شروخ الفرقة والانقسام، وتعطلت التنمية، وتوقفت فرص البناء المشترك، وغاب العقل، وتوارت
الحكمة، وظلت نظرية "الفارس الوحيد" (cavalier seul) سيدة المنال
والمآل.
يُقال عادة "قد يختلف الناس في تأويل الوقائع، لكن التاريخ
وحده يملك سلطة النطق بالحكم الأخير"، ويُقال أيضا "في زمن تتعدد فيه الأصوات،
يبقى التاريخ هو القاضي الأعلى، هو الشاهد الأمين الذي لا يُضل طريق العدالة".
لذلك، نطقت الشرعية الدولية بعدالة ما أمرها التاريخ بالنطق به.. فليس صدفة أن يُجمع
عقل الأمم المتحدة وجهازها التقريري، أي مجلس الأمن، بما كاد أن يُجمع عليه، ومع ذلك
كان خطاب العاهل المغربي لحظة الإعلان عن نتائج تصويت أعضاء مجلس الأمن وسطيا معتدلا،
مستشرفا المستقبل ومتطلعا إلى التماس الخير والنفع المشتركين فيه، منتقيا عبارات دقيقة
برمزية عالية البلاغة والدلالة، من قبيل: لا غالب ولا مغلوب،
حين اعتمد القرار الأممي صيغة "الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية"، يكون قد اعترف، وإن بشكل ضمني، بمغربية الإقليم من الناحية الواقعية (de Facto recognition)، إضافة إلى أنه دشن مقاربة جديدة في فقه القانون الدولي الخاص بالنزاعات
والوطن متسع للجميع، واليد
ممدودة للأشقاء في الجزائر. ألم يعتمد الجنرال ديغول، في أوج الاستعداد لمفاوضات "إيفيان"
(Evian)، المفضية إلى
استقلال الجزائر في الخامس من تموز/ يوليو 1962، عبارة "سلام الأبطال"؟ ولو
أن السياقين المتحدث عنهما مختلفان في الطبيعة والأبعاد.
كيف يمكن استنباط الأبعاد القانونية للقرار 2797، المعترف
بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية؟ وهل تُسعفنا هذه الأبعاد في القول بوجود مُكنات
سياسية فعلية للتفاوض بين الأطراف الأربعة، المحددة في نصه الرسمي، وهي المغرب والجزائر
والبوليساريو وموريتانيا، بُغية الوصول إلى توافق نهائي، يُكرس السيادة المغربية، ويؤسس
لبناء مؤسساتي واقتصادي واجتماعي، يقبله الجميع ويلتزمون به؟
لا بد من التأكيد أولا على أن صيغة الحكم الذاتي الواردة
في القرار قبرت بلا رجعة فكرة الاستفتاء، وهو تطور نوعي في القرار الأممي، ثم إن الحكم
الذاتي لا يعني تقرير المصير المُفضي إلى الاستقلال أو الانفصال، بل يُقصد به الحكم
الذاتي الذي يعترف للسكان المخاطَبين به بالتعبير عن إرادتهم في تدبير شؤونهم المحلية
المجالية في إطار السيادة المغربية الكاملة، أي في نطاق المقومات المعروفة والمألوفة
للسيادة، وهي تحديدا احتكار الدولة المغربية لمؤسسات الجيش والأمن، والعملة الوطنية،
والسياسة الخارجية، والشرعية الدينية (إمارة المؤمنين)، وحماية الحدود والوحدة الترابية،
والسهر على احترام الثوابت كما تم تكريسها في وثيقة الدستور لعام 2011. لذلك، حين اعتمد
القرار الأممي صيغة "الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية"، يكون قد اعترف،
وإن بشكل ضمني، بمغربية الإقليم من الناحية الواقعية (de Facto recognition)، إضافة إلى
أنه دشن مقاربة جديدة في فقه القانون الدولي الخاص بالنزاعات، تتأسس على منهج واقعي
ونفَس تطوري، فيكون بذلك قد جبّ ما سبقه من قرارات، دأب واضعوها على التمسك بالمنهج
القانوني الجامد والضيق.
والحال، يُنسب هذا الانتقال النوعي في طريقة اشتغال مجلس
الأمن؛ لحيوية الدبلوماسية المغربية ومعقولية استراتيجيتها التفاوضية، التي مكنتها
من إقناع تسعين في المائة من أعضاء مجلس الأمن الدولي بنقل مشروع الحكم الذاتي المغربي
لعام 2007؛ من مبادرة إلى مرجع قانوني دولي لتسوية المنازعات.
فبهذا، يكون القرار الأممي رقم 2797 قد جعل من الحكم الذاتي
تحت السيادة المغربية خيارا وحيدا، ملغيا ومستبعدا بذلك كل الخيارات التي ظلت متداولة
بين الأطراف المعنية بالنزاع. كما رسم المهام المنتظرة من هذا الخيار، من حيث إطار
التفاوض، وموضوعاته، وأطرافه، ونقطة أو محطة وصوله. والحقيقة أن مجلس الأمن يكون قد
رسم الطريق التي يجب أن يسلكها الجميع، كما نبه الجميع للمسارب التي يجب تجنبها لاحترام
روح الإرادة الدولية وعدم الخروج عنها.
القرار الأممي رقم 2797 قد جعل من الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية خيارا وحيدا، ملغيا ومستبعدا بذلك كل الخيارات التي ظلت متداولة بين الأطراف المعنية بالنزاع
الآن وقد انتقل ملف الوحدة الترابية المغربية من "التدبير
إلى التغيير"، كما قال العاهل المغربي، ما العمل؟ وماذا ينتظر المغرب وباقي الأطراف؟
ينتظر جميعَ الأطراف عمل كبير، شاق ومُضنٍ، ويُطلب من المخاطَبين
بالقرار والساهرين على احترام تنفيذه، درجة عالية من الصبر والبحث عن المشترك النافع
للجميع، كما يُعول على حسن نية وإرادة الكل، وتغليب البصيرة والعقل على النزوات ومنطق
الفارس الوحيد، وعدم الهروب إلى الأمام، وتفادي الانحباس في التفاصيل والجزئيات الضارة
وغير النافعة، لأن في تلافيفها تكمن الشياطين، وتنكسر الإرادات، وقد يعود الزمن بالجميع
إلى المربع الأول، وهو ما لا يُقبل ولا تقبله الإرادة الدولية صانعة القرار.
يتوفر المغرب على تراكم غني لتحديد رؤيته للحكم الذاتي تحت
سيادته، وهو الذي اشتغلت كفاءاته منذ عقود على هذا المبدأ، كما تؤهله سمعته الدولية
وموقعه الجيو استراتيجي، وإنجازاته المتنامية في كل الميادين، لأن يقدّم لمجلس الأمن
أرضية واقتراحات متكاملة ومقنعة لما سيغذي التفاوض السياسي والاقتصادي والأمني بين
الأطراف التي حصرها بالاسم القرار 2797. كما تسمح له وسطيته واعتداله وقدرته على الإمساك
بالمشترك، بأن يُدافع باقتدار وإقناع عن هذه الرؤية والاقتراحات. بيد أن دوره وحده
ولوحده لا يكفي، بل يشترط نجاح الانتقال إلى إنجاز الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة
المغربية توفر الأطراف الأخرى، وفي مقدمتها الجزائر، على القيم نفسها، أي الإرادة الصادقة
في اجتراح تفكير جديد يقطع مع ما تراكم لديها من أفكار وسلوكيات، تكلست لديها على مدار
خمسة عقود، وأضاعت بسببها فرص بناء جوار عقلاني، إيجابي ومتعاون مع المغرب.