قضايا وآراء

متطلبات استقلال القضاء وتحقيق العدالة

امحمد مالكي
"وجود قضاء لا يبرر بالضرورة وجود عدالة، ولا يمكن للعدالة أن تقوم بدون قضاء عادل"- الأناضول
"وجود قضاء لا يبرر بالضرورة وجود عدالة، ولا يمكن للعدالة أن تقوم بدون قضاء عادل"- الأناضول
العدالة هي أعز ما يُطلب، ليس اليوم، حيث تشابك الحق مع الباطل، وأصبح عصيا فك الارتباط بينهما، بل منذ أن شرع الإنسان، بصيغة الجمع، في الوعي بمحيطه العام، وإدراك سياقات عيشه المشترك. فسؤال العدالة قديم قِدم البشرية، والتفكير في الاقتراب منها مُبتغى لازم البشرية في تطورها وكبوتها وانكفائها.. بل إن الإنسانية اليوم، وعلى الرغم من هول الإنجازات التي حققتها في كل المادين، ما زالت عاجزة عن غرس العدالة في المؤسسات والمجتمعات، وتوطينها في الثقافات.

يُدرك القارئ الكريم الفروقات الكائنة بين مصطلحي القضاء والعدالة، ويعي الترابط والتكامل بينهما. فالقضاء لغة يعني الحكم، أو القطع، أو الالزام، وإصدار القرار البات والفاصل، أما اصطلاحا، أي قانونيا، فهو جهاز من أجهزة الدولة، تنحصر وظيفته في البت في النزاعات عبر إصدار الأحكام المتوافقة مع الشرعية القانونية، في حين يُقصد بالعدالة لغة الإنصاف والمساواة، أما العدالة فلسفيا وقيميا فهي مبدأ معياري، وقيمة سامية، تروم المجتمعات إلى تحقيقها وإدراك روحها. ومن هنا، يُعتبر القضاء وسيلة دستورية وقانونية، بينما العدالة قيمة، أي غاية مُثلي ومقصد سام. والحال أن وجود قضاء لا يبرر بالضرورة وجود عدالة، ولا يمكن للعدالة أن تقوم بدون قضاء عادل.

الضمانات الدستورية وحدها لا تكفي لجعل مبدأ الاستقلالية مستقرا ومحترما على صعيد الممارسة. لذلك، تلعب -في اعتقادنا- جملة من المحددات دورا مفصليا في توطين هذا المبدأ وصون ضماناته، لعل أهمها وجود دستور ديمقراطي نابع من توافق المجتمع حوله، وتوفر قدر من التوازن بين السلطتين السياسيتين التشريعية والتنفيذية، واستقرار فكرة دولة القانون وترسخ ثقافتها في مؤسسات الدولة ووعي المجتمع

يجدر التنبيه إلى أن ثمة مصفوفة من المتطلبات الواجب توفرها لتمكين القضاء من امتلاك استقلاليته، لعل أبرزها الضمانات الدستورية والسياسية والثقافية.

يُقصد بـ"الضمانات الدستورية" لاستقلال القضاء أن يتضمن الدستور، باعتباره الوثيقة الأسمى، مقتضيات وأحكاما تُقر بالاستقلالية، وتنص على الآليات الكفيلة باحترامها على صعيد الممارسة. والحال أن قيمة هذا التنصيص في متن الوثائق الدستورية، تكمن في المكانة السميقة التي يحظى بها الدستور في هرم القوانين، كما تنبع من القيمة المتزايدة للشرعية الدستورية (légalité constitutionnelle) في النظم الديمقراطية المعاصرة.

فإذا كانت الدساتير الحديثة قد اختلفت من حيث درجة تنصيصها الصريح على مصطلح "سلطة قضائية" (Pouvoir judiciaire)، فقد أولت أهمية خاصة للقضاء بكامل درجاته وفروعه، وشددت على استقلاله الوظيفي والعضوي، ونصت على آليات من شأنه تعزيز هذه المكانة وصيانتها من كافة أوجه الضغط، أو المساس والخرق، التي تتعرض لها كسلطة، أو تنال المشتغلين في نطاقها كأفراد.

ومن الجدير بالإشارة أن الفقه الدستوري والقانوني كان له الدور البارز في تأصيل مبدأ الاستقلالية، كما كان للفكر السياسي المساهمة نفسها في الدفاع عن العلاقة التلازمية بين استقلال القضاء وتحقيق العدالة، وتوطين الديمقراطية، وإشاعة قيمة الحرية في الدولة والمجتمع. ومن باب المقارنة العمودية، لم تشذ الدساتير العربية عن نظيراتها في الدول الأوروبية والغربية عموما، حيث نصت على مبدأ الاستقلال وضمان احترامه. نجد ذلك في جل الدساتير العربية، وإن تباينت بين التنصيص على استقلال القضاء تارة واستقلال القضاة طورا آخر.. فهكذا، قضى دستور اليمن (2015)، والنظام الأساسي للمملكة العربية السعودية (1992) والدستور السوري (دستور 1973 المعدل عامي 2000 و2012)، باستقلال السلطة القضائية، في حين أشارت دساتير كل من الأردن (ف 97)، وتونس (ف 96]، والمغرب (ف 82)، والإمارات العربية المتحدة (م 94)، والبحرين (م 104) إلى استقلال القضاة.

أما الضمانات السياسية فالمقصود بها تلك التي يوفرها السياق السياسي المحيط بمؤسسة القضاء. فالضمانات الدستورية وحدها لا تكفي لجعل مبدأ الاستقلالية مستقرا ومحترما على صعيد الممارسة. لذلك، تلعب -في اعتقادنا- جملة من المحددات دورا مفصليا في توطين هذا المبدأ وصون ضماناته، لعل أهمها وجود دستور ديمقراطي نابع من توافق المجتمع حوله، وتوفر قدر من التوازن بين السلطتين السياسيتين التشريعية والتنفيذية، واستقرار فكرة دولة القانون وترسخ ثقافتها في مؤسسات الدولة ووعي المجتمع. لذلك، يحظى استقلال القضاء في النظم التي تحققت لها هذه المحددات بمكانة مميزة، خلافا لغيرها من التجارب التي غدا عصِيّا عليها إنجاز التغييرات الضرورية لتيسير لوازم مبدأ الاستقلالية.

قدمت التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال الدليلَ على قدرة الثقافة المشارِكَة على جعل مؤسسات الدولة راعية للمبدأ، وحفز المجتمع على الدفاع على استقلال القضاء، باعتباره قيمة قانونية وسياسية مشتركة

فهكذا، تمثل "دولة القانون" (Etat de Droit) حلقة أساسية في ضمان مبدأ استقلال القضاء في النظم السياسية الحديثة. فحين يصبح سلطان القانون فيصلا بين الناس، أفرادا وجماعات، ويغدو حكمه قطعيا غير قابل للمساومة، يتوفر للقضاء مناخ الاحترام، وتدبﱡ روح الثقة فيه من قبل المواطنين، لأنهم يرون القانون مطبقا في حياتهم، ويلمسون مفعوله ساريا في ضبط وتنظيم اجتماعهم المدني. بيد أن دولة القانون سيرورة متدرجة في الزمن، تلعب التربية، والثقافة، وارتفاع درجة الوعي المجتمعي العام؛ دورا مفصليا في جعلها واقعا فعليا، وقيمة مشتركة تتقاسمها مؤسسات الدولة وقطاعات المجتمع. فهكذا توفرت للنظم الديمقراطية.

وفي باب الضمانات الثقافية، تعتبر الثقافة، بحسبها خزّان قيم الناس وتقاليديهم، محددا رئيسا في ضمان استقلال القضاء وحماية احترامه، ولأنها سيرورة معقدة ومتدرجة في الزمن، تحتاج الثقافة إلى قدر كبير من الجهد الجماعي والمراكمة المنتظمة لتصبح فاعلة بشكل إيجابي في اتجاه تكريس مبدأ استقلال القضاء. لذلك، يميز علماء الاجتماع السياسي بين نمطين من الثقافة: ثقافة المشاركة، وثقافة الاتباع أو الخضوع. فبينما يساعد النمط الأول على جعل مبدأ الاستقلال قيمة مشتركة بين الدول والمجتمع، يعوق النمط الثاني صيرورة مبدأ استقلال القضاء حقيقة متَوطﱢـنة في مؤسسات الدولة ونسيج المجتمع. وقد قدمت التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال الدليلَ على قدرة الثقافة المشارِكَة على جعل مؤسسات الدولة راعية للمبدأ، وحفز المجتمع على الدفاع على استقلال القضاء، باعتباره قيمة قانونية وسياسية مشتركة.
التعليقات (0)