قضايا وآراء

بين تصفيق الكنيست ومسرحية شرم الشيخ: تحليل الأجندة المالية لمؤتمر السلام وخطة ترامب

علاء الدين سعفان
"كانت مشاركة ترامب وبعص قادة الدول الخليجية والدول الكبرى في مؤتمر شرم الشيخ أو دعمهم لخطة التسوية مدفوعة بالبراغماتية الاقتصادية"- جيتي
"كانت مشاركة ترامب وبعص قادة الدول الخليجية والدول الكبرى في مؤتمر شرم الشيخ أو دعمهم لخطة التسوية مدفوعة بالبراغماتية الاقتصادية"- جيتي
تشكّل الأحداث الجارية في المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما تلاها من الحرب الإسرائيلية الأمريكية على قطاع غزة (بمشاركة ودعم حلفائهما)، وما نتج عنها من سفك دماء أكثر من 65 ألف شهيد وتدمير لنحو 90 في المئة من مدن القطاع وأزمة إنسانية طاحنة وحصار وتجويع وتشريد وارهاب لأكثر من مليونين من أهل غزة؛ منعطفا حادا في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط.

لقد كشفت الزيارات والتحركات الدبلوماسية والمفاوضات المتكررة والوساطات رفيعة المستوى، آخرها تفعيل خطة ترامب ثم الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي ومبعوثه وابنته وزوج ابنته ووزرائه وقيادات الجيش الأمريكي للكنيست، ثم حضورهم انعقاد مؤتمر شرم الشيخ للسلام 2025 في نفس اليوم، بحضور كوكبة من زعماء العالم (والذي عقدته مصر بهدف معلن هو دعم جهود السلام في المنطقة)؛ عن أجندة إقليمية ودولية تتجاوز الإغاثة الإنسانية إلى محاولة تنفيذ هندسة اقتصادية تهدف إلى تثبيت الاستقرار الأمني على حساب الحقوق السياسية.

إنّ هذه المقاربة، التي يمكن وصفها بـ"اقتصاديات الكوارث" (Disaster Capitalism) تسعى لتحويل الخسائر الهائلة إلى فرص استثمارية ضخمة للشركات والدول المتحالفة، متجاهلة التكلفة البشرية والكارثة الإنسانية التي خلّفها قتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء وكبار السن والأطفال والمرضى والعجزة والجوعى والمشردين والواقفين في طوابير توزيع الطعام ومواد الإغاثة، وتدمير شامل للمستشفيات والمدارس والمساجد وأحياء ومدن كاملة في قطاع غزة المنكوب.

الآثار الاقتصادية لحرب الإبادة العرقية على غزة:

حصاد خسائر الدول:

إنّ التكلفة الإجمالية لحرب غزة تتجاوز بكثير الأرقام المعلنة، لكن التقديرات الأولية تشير إلى أن الخسائر المادية المباشرة وغير المباشرة بلغت مئات المليارات من الدولارات.

إنّ جوهر تحركات "خطة ترامب" التي ظهرت ملامحها في مؤتمر شرم الشيخ 2025؛ محاولة "تجميد القضية الفلسطينية" عبر ضخ سيولة مالية خليجية لإعادة إعمار مُوجهة، تكون بمثابة مكافأة للكيان الصهيوني والولايات المتحدة وحلفائهما الذين تسببوا في تدمير القطاع ثم يجبرون الخليج اليوم على سداد فاتورة هذا الدمار!! بدعوى أن الولايات المتحدة تضمن الأمن الإقليمي واستقرار الأنظمة الحاكمة في المنطقة!

سنتناول كل دولة على حدة في بضع أسطر لمحاولة فهم المدخلات قبل طوفان الأقصى وتأثير الحرب على غزة على كل دولة، وتحليل عملية الهندسة المالية واستثمار الكارثة من وجهة نظر كل دولة:

دولة الاحتلال:

كان الاقتصاد الإسرائيلي قبل 7 أكتوبر قويا ويعتمد على قطاع التكنولوجيا الفائقة (High-Tech)، لكن الحرب أحدثت صدمة غير مسبوقة.

الخسائر التقديرية المباشرة وغير المباشرة تجاوزت حاجز 100 مليار دولار أمريكي (الواقع أضعاف تقديرات صندوق النقد والمنظمات الدولية وفق تقارير صحفية)، نتيجة استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط، مما شلّ عجلة الإنتاج وتسبب في انخفاض حاد للناتج المحلي الإجمالي (GDP). كما انخفضت السياحة بأكثر من 80 في المئة، وتزايدت الضغوط التضخمية.

الهدف الاستراتيجي من وراء دعم هذه الأجندة هو الحصول على تمويل دولي ومساعدات عسكرية أمريكية ضخمة، لتغطية التكاليف الهائلة وتأمين استمرار "التفوق العسكري الكاسح" (Qualitative Military Edge).

مصر:

تعاني مصر من ضغوط اقتصادية تفاقمت حدتها منذ الفترة 2011-2013 مرورا بأزمة كورونا ثم الحرب على غزة، أبرزها نقص العملة الصعبة وارتفاع الدين الخارجي الذي يقارب 165 مليار دولار، في مناخ من الفساد المالي والإداري واختناق الأفق السياسي وتقييد الحريات.

أثرت التوترات الإقليمية في البحر الأحمر، والناجمة عن الحرب، على قناة السويس، والتي تراجعت إيراداتها بأكثر من 50 في المئة.

الهدف المصري المعلن من دعم الأجندة هو تأمين حدودها مع غزة ومنع سيناريو النزوح القسري إلى داخل سيناء، وهو ما يمثل خطورة بالغة على الأمن القومي المصري والإسرائيلي على حد سواء من وجهة النظر المصرية.

لكن الهدف الاقتصادي الأعمق هو الحصول على المزيد من حزم الدعم المالي والاقتصادي -بدعم الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي- من الدول الخليجية لمواجهة تحديات الدين وتخفيف الضغط على الجنيه المصري، بخلاف طلب ضغط الولايات المتحدة على إثيوبيا فيما يتعلق بالخلافات حول إدارة سد النهضة الإثيوبي وخطورته الكارثية على مصر.

الأردن:

يواجه الاقتصاد الأردني تحديات مزمنة كارتفاع البطالة لأكثر من 22 في المئة. وقد أدت الحرب على غزة وتداعياتها إلى ضرب قطاع السياحة، الذي يُعدّ مصدرا رئيسيا للعملة الصعبة.

يُعدّ الحفاظ على الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس هدفا استراتيجيا وجوديا للأردن. أما اقتصاديا، فإن عمان تهدف إلى ضمان استمرار تدفق المساعدات الأمريكية والأوروبية التي تُبقي ميزانية الدولة متوازنة، والعمل على استعادة ثقة المستثمرين والسياح وعودة العلاقات التجارية مع الكيان لطبيعتها.

قطاع غزة:

كانت غزة قبل الحرب تحت حصار خانق من مصر والكيان الصهيوني معا وفي دمار اقتصادي، حيث تجاوز معدل البطالة 65 في المئة. اليوم، يشير تقرير البنك الدولي إلى أن الخسائر المادية والبنية التحتية قد تتجاوز 50 مليار دولار (تقارير أخرى تتحدث عن مئات المليارات من الدولارات).

إنّ القطاع المُحاصَر المنكوب المعزول والمحارب من الجميع يتطلع فقط إلى وقف القتل وفتح المعابر ودخول الطعام والدواء والمواد الإغاثية وعودة شعاع من حياة كريمة وآمنة لأبناء الشعب الفلسطيني في غزة. لكن الأجندة الأمريكية والدولية والإقليمية لا تراه كذلك، بل تراه ساحة لـ "صراع المقاولين"!.

يتمثل الهدف الفعلي للولايات المتحدة والكيان الصهيوني والدول الداعمة لهما في المنطقة في هدم الأنفاق وتأمين الشريط الحدودي، مقابل ضخ أموال خليجية (قد تصل إلى 20 مليار دولار) مُدارة أمريكيا وبمشاركة دولية، يتوقع أن تذهب الحصة الكبرى منها لشركات أمريكية وغربية وعربية وتركية ومصرية وإسرائيلية مرتبطة بمسارات التطبيع الإقليمي.

الرابحون من المشهد الإقليمي:

دبلوماسية المقاولات:

لقد كانت مشاركة ترامب وبعص قادة الدول الخليجية والدول الكبرى في مؤتمر شرم الشيخ أو دعمهم لخطة التسوية مدفوعة بالبراغماتية الاقتصادية، بعيدا عن الشعارات الإنسانية.

قطر:

باعتبارها قوة في مجال الغاز الطبيعي المسال (LNG) وأنها تمتلك صندوق ثروة سيادي ضخم (يقارب 450 مليار دولار)، وأنها تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الخليج العربي؛ تسعى قطر لتثبيت دورها كوسيط أساسي ومفاوض لا غنى عنه لدى واشنطن.

الهدف الاقتصادي يتمثل في توجيه وإدارة جزء من أموال إعادة الإعمار، مما يعزز نفوذها ويقلل من المخاطر السياسية على استثماراتها العالمية.

المملكة العربية السعودية:

تركز السعودية على تحقيق رؤية 2030 وتنويع مصادر الدخل. كان مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني بشرط دولة فلسطينية يمثل جزءا من استراتيجيتها لتأمين مصالحها الإقليمية والحصول على ضمانات أمنية أمريكية.

لذلك، فإن دعم أي خطة للتهدئة يُعد محاولة لاستئناف مسار الاندماج الاقتصادي الإقليمي الذي يخدم مشاريعها العملاقة، خاصة بعد توقف مسار التطبيع بسبب أحداث "طوفان الأقصى"، بخلاف أن مسار حماس ومحور المقاومة في المنطقة يصب في توتر دائم فيها لا يتماشى مع تطلعات رؤية السعودية 2030 بل يعرقلها.

الإمارات

تسعى الإمارات لحماية مركزها المالي والتجاري العالمي (Global Hub)، إذ إن أي زعزعة للاستقرار تهدد تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر (Foreign Direct Investment - FDI) ومكتسبات اتفاقيات أبراهام.

الهدف هو ضمان استقرار المنطقة لتعزيز مكانتها كوجهة آمنة للاستثمار العالمي، مع حماية استثماراتها في المنطقة، بخلاف تماهيها التام مع أهداف الكيان الصهيوني ورغبتها في القضاء على أي جيب من جيوب ما يطلق عليه الإسلام السياسي في المنطقة، والذي انتعش شعبويا وتنامى بعد طوفان الأقصى، مما يمثل خطرا وجوديا على الإمارات وأهدافها الاستراتيجية.

تركيا:

على الرغم من المواقف السياسية المعارضة، فإن تركيا، ذات الاقتصاد الصناعي والتجاري القوي، تسعى للحصول على حصة وازنة في مشاريع إعادة الإعمار. هدفها هو استعادة وتوسيع شبكتها التجارية الإقليمية وفتح أسواق جديدة لشركات المقاولات والبناء التركية، مما يساعدها في مواجهة ضغوط التضخم وانخفاض قيمة الليرة التركية، والانهيار الوشيك للاقتصاد التركي وخاصة بعد تخلصها من ملايين المهاجرين واللاجئين على أراضيها الذين كانوا وقود الاقتصاد والحياة التجارية والزراعية والصناعية في البلاد، وكانوا يقومون بما يرفض العامل التركي من القيام به من وظائف ومهن وبأجور متدنية.

الولايات المتحدة الأمريكية:

تسعى الولايات المتحدة، كراعٍ ومُسهِّل، لتأمين مصالح حليفها الاستراتيجي، وضمان تحريك اقتصادها ومصانعها بتدفق المزيد من صفقات السلاح (Arms Deals) لتعويض المخزون المستنفد في الكيان الصهيوني والدول الخليجية أيضا.

كذلك، إظهار القيادة العالمية والحد من نفوذ المنافسين (روسيا والصين) في المنطقة، مع ضمان تسهيل عمل شركاتها في عقود الأمن وإعادة الإعمار، بخلاف الأنا المتضخمة لدى الرئيس ترامب وطبيعته كرجل أعمال ومستثمر عقاري، والتي باتت تؤثر على قرارات الولايات المتحدة وعلاقاتها الدولية.

المملكة المتحدة:

تهدف بريطانيا إلى الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع الأطراف الإقليمية الرئيسية ومع الولايات المتحدة.

اقتصاديا؛ يتركز هدفها في تأمين مصالحها التجارية والملاحية في البحر الأحمر وضمان استقرار أسواق الطاقة. كما وتشارك في دعم خطط إعادة الإعمار لتأمين عقود لشركاتها في ظل تراجع اقتصادي مستمر منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي.

قادة الاتحاد الأوروبي (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا):

هدفهم الاستراتيجي يتمحور حول أمن الطاقة في شرق المتوسط وكبح موجات ما يطلقون عليه الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من السواحل الجنوبية.

اقتصاديا؛ فالتواجد في مثل هذه المؤتمرات والمسرحيات يعني محاولة ضمان عقود مقاولات ضخمة لشركاتها العملاقة في مجالات البنية التحتية والأمن، مما يمثل حافزا كبيرا لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي لدولها.

خلاصة القول: رسملة الكوارث شعار الغد:

إنّ الأحداث الجارية تُرسّخ حقيقة اقتصادية مفادها أن الاستقرار الأمني المؤقت يُشترى بالمال، ويُموّل بأموال الخليج مع الأسف، ويُدار بتوجيه أمريكي-إسرائيلي، ويُستغلّ لتعزيز مصالح الدول الكبرى عبر تكتل تجاري استخباراتي اقليمي ودولي بقناع سياسي إغاثي يُغلف بإعادة الإعمار!

التوقعات لما تبقى من العام الحالي والأعوام الثلاثة المقبلة (2025-2028)

استراتيجيا وسياسيا وأمنيا:

في تقديري الشخصي ما حدث لا يتجاوز كونه هدنة واستراحة محارب وإعادة تنظيم الصفوف، واستجماع القوى وحشد الحلفاء وتهدئة الحاضنات الشعبية، مع استمرار قصير لهدوء حذر، وتوقعات انفجار الأحداث في أي لحظة، فالصهاينة لا عهد لهم والسلم لا يناسب الغاصبين المحتلين، وسيواصلون استفزاز أصحاب الأرض وجيرانهم حتى يهزمهم الله بنصره ويزيل دولتهم بقدرته ونستعيد الأقصى قريبا بحول الله تعالى. فقط قد يشغل الكيان الصهيوني عن غزة بعض الحروب الخاطفة على إيران ولبنان واليمن وسوريا، وربما دول لا يتوقعها أحد!

اقتصاديا:

تشير المؤشرات إلى استمرار تدهور حالة الركود الاقتصادي أمريكيا ثم بالتالي عالميا واقليميا، وحتما ستتأثر بؤر الصراع سلبيا، بينما ستستفيد بعض الدول والشركات والأشخاص من بعض التدفقات المالية الضخمة لفترة قصيرة جدا، ربما سيخلق وضعا مؤقتا من "النمو غير الشامل" (Non-Inclusive Growth) في بعض الدول (2025-2027).

لكن عدم تقديم الحلول العادلة للقضية الفلسطينية وللأزمات الداخلية المزمنة وملف الحريات والعدالة الاجتماعية في دول المنطقة من جذورها، والإدارة العشوائية والخاطئة للاقتصاد والموارد البشرية والمالية والطبيعية واستمرار الفساد، وإشعال الفتن والحروب والتفرق والخلافات والعمالة، ربما سيزداد معها بحدة اتساع الفجوة بين الأهداف السياسية والاقتصادية والمجتمعية للشعوب وحكوماتها وقادتها، سواء في منطقتنا أو في الولايات المتحدة، ما ينذر بسلسلة وموجة جديدة أعنف وأشد بكثير من الاختلالات الاقتصادية.

إن الانهيارات الاقتصادية إن صدقت التوقعات من شأنها أن تؤدي إلى اضطرابات سياسية وأمنية عنيفة؛ ليس فقط في المنطقة لكنني أتوقع أن تمتد إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى بشكل متسارع خلال الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، والله تعالى أعلى وأعلم.

نسأل الله السلامة لشعوبنا، وأن يعوض إخواننا في غزة خيرا عن صبرهم وثباتهم وعن التضحيات الهائلة التي بذلوها في سبيل الله، ويتقبل منهم ويغفر لنا تقصيرنا وخذلاننا لهم، وأن يكتب لنا صلاة في المسجد الأقصى محررا.
التعليقات (0)