ملفات وتقارير

بين الركام والموت.. معركة الدفاع المدني في غزة لانتشال الجثث المجهولة وسط قلة الإمكانات

الدفاع المدني في غزة يواجه تحديات هائلة في انتشال الجثث وسط نقص المعدات وحصار الاحتلال - الأناضول
الدفاع المدني في غزة يواجه تحديات هائلة في انتشال الجثث وسط نقص المعدات وحصار الاحتلال - الأناضول
منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ ظهر الجمعة الماضي، لا تزال مشاهد الموت تلاحق طواقم الدفاع المدني الفلسطيني، التي تخوض سباقا مع الزمن لانتشال جثث آلاف المفقودين من تحت أنقاض المنازل المدمرة بفعل القصف الإسرائيلي.

ورغم مرور أكثر من 735 يوما على حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، فإن 9 آلاف و500 فلسطيني ما زالوا في عداد المفقودين، وفق ما أفاد به المتحدث باسم الدفاع المدني، السبت، مشيرا إلى أن ما يقارب 300 ألف مواطن عادوا إلى مدينة غزة منذ وقف النار، في ظل غياب تام للمأوى والمساعدات الأساسية.

في مشهد يختصر المأساة، أعلن الدفاع المدني مساء الجمعة الماضي انتشال جثامين 63 فلسطينيا من شوارع مدينة غزة منذ لحظة سريان الهدنة، مؤكدا أن "العشرات ما زالوا تحت الأنقاض وفي الطرقات"، بينما تعيق القوات الإسرائيلية المنتشرة في بعض المناطق وصول الطواقم إلى مواقع عديدة.


جهود مضنية وسط الدمار
يقول المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل إن طواقمه تعمل "بإمكانات شبه معدومة"، في ظل دمار شامل طال البنية التحتية والمراكز الطبية، مشيرًا إلى أن أكثر من مئة نداء استغاثة وردت إلى الجهاز منذ فجر السبت، لكن الاستجابة "شبه مستحيلة" بسبب نفاد الوقود ونقص المعدات الثقيلة اللازمة لرفع الركام.

ويضيف في حديث لمراسل الأناضول: "أعمالنا محفوفة بالمخاطر، فالعديد من المباني المدمرة تحتوي على متفجرات ومخلفات حربية إسرائيلية، تشكل تهديدا حقيقيا على حياة طواقمنا. ومع ذلك، نواصل العمل بإصرار، مؤمنين بواجبنا الإنساني تجاه أبناء شعبنا."

اظهار أخبار متعلقة




ويؤكد بصل أن ما يجري هو "مهمة إنقاذ في أرض محروقة"، إذ فقد الدفاع المدني معظم آلياته ومعداته بفعل القصف الإسرائيلي المتعمد لمراكزه، ويضطر العاملون إلى استخدام أدوات بدائية كالمجارف والمعاول في مواقع انهارت فيها أبراج ومبان سكنية تضم عشرات العائلات.

ظروف قاتلة ومخاطر مستمرة
تشير تقارير الدفاع المدني إلى أن كثيرا من المباني المنهارة لا تزال تحتوي على قنابل غير منفجرة ومواد قابلة للاشتعال، ما يجعل عمليات الانتشال محفوفة بالموت في كل لحظة.

ويقول بصل: "نواجه انهيارات جديدة أثناء العمل، ونفتقر إلى أجهزة كشف متطورة أو كلاب مدربة لتحديد مواقع الجثث، لذلك نتحرك بحذر شديد وبوسائل بسيطة."

ورغم الخطر، لا تتوقف فرق الإنقاذ عن العمل، حيث توزعت على مناطق الشمال وغزة وخان يونس محاولة الوصول إلى نداءات استغاثة تصل تباعا من المدنيين.

ويعمل المنقذون في ورديات تمتد طوال اليوم، وسط انقطاع الكهرباء وغياب معدات الحماية الشخصية، بينما يضطرون إلى الاعتماد على ضوء الهواتف المحمولة أو مولدات صغيرة لتفقد الأنقاض في الليل.


جثث مجهولة.. وصمت في المشرحة
في مدينة غزة، تتكدس مئات الجثامين داخل مشرحة مجمع الشفاء الطبي، دون معرفة هوية أصحابها.
هنا يعمل الأطباء وسط رائحة الموت، محاولين تحديد هوية الضحايا بأساليب بدائية بعد أن منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال أجهزة فحص الحمض النووي (DNA)، اللازمة للتعرف على الجثامين المتفحمة والمشوهة.

يقول الطبيب الشرعي الفلسطيني عماد شحادة للأناضول: "نقيس العظام يدويا، نتحقق من الأسنان والملابس والمقتنيات الشخصية مثل الخواتم والمفاتيح والساعات، لكننا نعاني من تزايد أعداد الجثث المجهولة، وافتقار تام للمعدات الطبية الحديثة."

ويضيف بأسى:"إسرائيل تمنع دخول أجهزة فحص الشيفرة الوراثية والمواد اللازمة لتشغيلها، ما يجعل التعرف على هوية الجثث شبه مستحيل، ويترك آلاف العائلات تعيش مأساة الانتظار."

"أشلاء تنتظر العدالة"
مع غياب المختبرات والمعدات، يعتمد الأطباء في غزة على وسائل بديلة، مثل مطابقة الملابس أو العلامات الجسدية، وهو ما يجعل احتمال الخطأ قائما دائما.

اظهار أخبار متعلقة




وبينما يجاهد الأطباء والمختصون في المشرحة لتسجيل البيانات القليلة المتاحة، تعيش مئات الأسر الفلسطينية مأساة مضاعفة؛ فحتى دفن أحبائهم أصبح رفاهية صعبة المنال.

اضطر كثيرون خلال الحرب إلى دفن شهدائهم في حدائق أو ساحات عامة، بسبب القصف المتواصل وصعوبة الوصول إلى المقابر، فيما ما زالت جثامين أخرى مطمورة تحت أنقاض المنازل المدمرة في أنحاء القطاع.


مراحل انتشال الجثث.. جهد إنساني مضن
ووفق المنظمات الإغاثية الدولية٬ تخضع عمليات انتشال الجثث بعد الحروب إلى بروتوكولات دقيقة ومعقدة، تبدأ بـ"التقييم الأولي للموقع" وتحديد المخاطر المحتملة من انهيارات أو متفجرات، ثم تقسيم المنطقة إلى قطاعات يجري البحث فيها تباعا باستخدام ما توفر من أجهزة استشعار وكاميرات حرارية بسيطة.لكن في غزة، تفتقر الطواقم لكل ذلك تقريبا.

يقول أحد عناصر الدفاع المدني: "نستخدم أي وسيلة ممكنة، حتى لو كانت أدوات مطبخية أو عصيا معدنية. المهم أن نصل إلى الجثث قبل أن تتحلل تماما."

عادة ما توثق الفرق موقع الجثة بدقة قبل نقلها، لتسهيل التعرف عليها لاحقا. ثم تُجمع الرفات في أكياس منفصلة، وتُخزن في غرف تبريد محدودة السعة، إن وجدت، أو في حاويات مؤقتة تفتقر لشروط التعقيم.

نداء إنساني للعالم
يختتم المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل حديثه بنداء مؤلم: "مشاهد الانتشال القاسية يجب أن تكون نداء للعالم ليتحرك فورا. سكان غزة لا يمكنهم مواجهة هذه الكارثة وحدهم. نحتاج إلى معدات ثقيلة وأجهزة إنقاذ ومولدات ومعدات حماية قبل أن تتحول المدينة إلى مقبرة جماعية صامتة."

ورغم الجهود البطولية التي تبذلها فرق الدفاع المدني والمتطوعون، فإن المأساة في غزة لا تزال مفتوحة على المجهول، فيما تتكشف فصول جديدة من الفقد مع كل جثة تُنتشل من تحت الأنقاض.

ويأتي ذلك بعد دخول المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس والاحتلال الإسرائيلي حيز التنفيذ عند الساعة 12 ظهر الجمعة الماضي، عقب موافقة حكومة الاحتلال على الصفقة فجرا. 

اظهار أخبار متعلقة




وشمل انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي مدينة غزة باستثناء حي الشجاعية وأجزاء من حيي التفاح والزيتون، وفي مدينة خانيونس انسحب الجيش من مناطق الوسط وأجزاء من الشرق، مع منع دخول الفلسطينيين إلى بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا ومدينة رفح ومناطق الساحل.

ويستند الاتفاق إلى خطة طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تقوم على وقف الحرب، وانسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي، وإطلاق متبادل للأسرى، دخول فوري للمساعدات الإنسانية، ونزع سلاح حركة "حماس".

وجاءت موافقة الطرفين على المرحلة الأولى من الاتفاق بعد أربعة أيام من مفاوضات غير مباشرة في منتجع شرم الشيخ شمال شرقي مصر، بمشاركة وفود من تركيا ومصر وقطر، وبرعاية أمريكية.

ومنذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومع الدعم الأمريكي، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة إبادة جماعية استمرت لعامين٬ وأسفرت عن استشهاد 67 ألفا و211 فلسطينيا وإصابة 169 ألفا و961 آخرين، أغلبهم من النساء والأطفال، فيما أزهقت المجاعة أرواح 460 فلسطينيا بينهم 154 طفلا.


التعليقات (0)

خبر عاجل