في زمن تُكتب فيه الحروب بـ"الخوارزميات" وتُدار بالذكاء الاصطناعي، لم تعد القنابل وحدها تقتل. في
غزة، تتقاطع خيوط التكنولوجيا والسياسة، وتتشابك مصالح الرّبح مع معادلات الموت.
في هذا التقرير المُعمّق كشفت "عربي21" كيف تَحوَّل الذكاء الاصطناعي ذاته، الذي استخدمته دولة الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها على كامل قطاع غزة المحاصر، إلى أداة فضح عالمية، فضحت الجريمة وجعلت من كل شاشة، عبر العالم، منبرا لمقاومة رقمية لا تعرف الحدود.
"لافندر": عندما يُبرمج الموت
في الأيام الأولى من عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، كشفت تقارير استقصائية عن استخدام الاحتلال لمنظومة ذكاء اصطناعي تُعرف باسم "لافندر"؛ طوّرتها وحدة الاستخبارات العسكرية 8200، لتعقّب وتصنيف الفلسطينيين بناءً على سلوكيات رقمية وأنماط تواصل، مثل: الاتصال برقم معين أو التواجد في منطقة ما.
لم تكن هذه مجرد أدوات مراقبة، بل أدوات قتل، حيثُ: يُدرج النظام آلاف الأسماء في "قائمة أهداف" تُنفّذ غارات ضدها دون تدقيق بشري فعلي. كانت خوارزميات "لافندر" تقرّر من يعيش ومن يُقتل، وفق تقارير لـ"هآرتس" ومصادر استقصائية أخرى، ما حوّل التكنولوجيا إلى وسيلة إبادة جماعية تحت غطاء "الذكاء".
وفي كلمات لأيمن، مختص الإعلام الرقمي من قلب خانيونس، بقطاع غزة المحاصر: "نحن أمام حالة غير مسبوقة من أتمتة القتل، حيث يُبرمج الموت ويُدار من لوحة تحكّم، لا من قائد ميداني". يُضيف في حديثه لـ"عربي21" أنّ: "هذه المنظومة أدّت إلى قصف عائلات كاملة، لأن أحد أفرادها فقط صُنّف كمشتبه به".
منظومات موازية: "أين أبي؟" و"الإنجيل"
لم يكن "لافندر" وحده في ميدان الحرب. تقارير صحفية وأمنية، رصدتها "عربي21" على مدار العامين، أشارت إلى منظومات أخرى، منها: "أين أبي؟"، الذي يعتمد على تتبّع الأفراد إلى منازلهم لاستهدافهم مع عائلاتهم، بهدف ضمان "النجاح الكامل للعملية".
أيضا رصدت "عربي21" نظام يُعرف باسم: "الإنجيل"، الذي يحدّد مبانٍ يُزعم أنها تُستخدم من قبل فصائل المقاومة، لكنها في الواقع، وبحسب تصريحات للغزّيين أنفسهم، مساكن مدنية يتمّ قصفها بلا تمييز.
ولعل المثير في هذه التقنيات ليس فقط وحشيتها، بل ادّعاءاتها بأنها "أكثر دقّة، وأقل خطأ بشري". لكن الأرقام الذي رصدتها "عربي21" تفنّد ذلك: أكثر من نصف الشهداء في غزة هم من النساء والأطفال، بحسب الأمم المتحدة؛ في حين تُظهر الصور القادمة من القطاع أحياءً سُويت بالأرض، ومقابر جماعية لأسر كاملة.
أيضا، منذ سنوات، تعمل دولة الاحتلال الإسرائيلي على تطوير منظومة متكاملة من أدوات مختلفة من الذكاء الاصطناعي، أبرزها أنظمة مثل:
- "حبسورا" (البشارة): منظومة تحليل استخباري تحول البيانات الخام إلى قرارات هجومية آلية.
- "الكيميائي" و"جوسبل": أدوات تحليل ميداني توفر قائمة أهداف للقادة العسكريين خلال دقائق.
"مايكروسوفت" والاتهام الأخلاقي
في كانون الثاني/ يناير 2025، كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية، عن تسريبات تثبت تورّط شركة مايكروسوفت في دعم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه على غزة. التحقيق الذي أُجري بالتعاون مع "972+ Magazine" و"سيحا ميكوميت"، أظهر أنّ الشركة قدّمت تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر خدمتها السحابية Azure، إضافة إلى توفير أدوات تحليل بيانات مثل GPT-4 لوحدات استخباراتية إسرائيلية، منها الوحدة 8200 و9900.
وفي بيان لاحق، أقرّت مايكروسوفت بأنها قدّمت "دعماً طارئاً" لحكومة الاحتلال الإسرائيلي ضمن جهود "استعادة الأسرى"؛ غير أنّها نفت استخدام أدواتها لأغراض عملياتية أو هجومية. رغم ذلك، لم تقدّم الشركة أيّ توضيحات كافية بخصوص مدى إشرافها على استخدام هذه التكنولوجيا داخل المنظومة العسكرية.
هذا الكشف أدّى إلى موجة احتجاجات داخلية في الشركة، وظهور حملة "No Azure for Apartheid"، التي أجبرت مايكروسوفت على طرد موظفتين شاركتا في الاعتصامات داخل مكاتبها.
كما استثمرت مايكروسوفت سابقًا في شركة "أني فيجين" الإسرائيلية التي طوّرت أنظمة مراقبة للضفة الغربية، وهي استثمارات تُعدّ من أبرز الأمثلة على "النقل الثنائي الاستخدام" بين التكنولوجيا المدنية والعسكرية.
وبعد عامين من تواطئها الصّارخ، أعلنت شركة مايكروسوفت، الخميس الماضي (في أكتوبر 2025) أنها عطّلت مجموعة من خدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي التي تستخدمها وحدة تابعة لوزارة الحرب الإسرائيلية، بعد أن خلصت مراجعة داخلية لوجود أدلّة تدعم تقارير إعلامية عن نظام مراقبة في غزة والضفة الغربية المحتلة.
جرّاء ذلك، لا تقف مايكروسوفت وحدها في قفص الاتهام. فشركات كبرى مثل غوغل وأمازون دخلت على خط التورط، عبر عقود حكومية، عدّة، لتقديم خدمات سحابية وتقنيات تعلم آلي لجيش الاحتلال الإسرائيلي، تحت غطاء "تطوير الخدمات المدنية".
اظهار أخبار متعلقة
الرقابة الرقمية: منصات في خدمة الاحتلال؟
بينما كانت القنابل تسقط على كامل قطاع غزة المحاصر، كان الفلسطينيون يُستهدفون ميدانيا ورقميا. بحسب تقرير لمركز "صدى سوشال"، ارتكبت مواقع التواصل الاجتماعي 5450 انتهاكا للمحتوى الفلسطيني خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، فقط، تصدّرتها "إنستغرام" و"فيسبوك" و"واتساب".
الرّقابة بحسب ما توصّلت إليه "عربي21" من تحليل للمُعطيات، لم تكن حيادية. في كثير من الحالات، إذ حُجبت الكثير من المنشورات التي تُوثق الجرائم، وأُزيلت صور لشهداء أطفال أو نداءات إنسانية، بمُبرّر "خرق معايير النشر"، فيما استمرت رواية الاحتلال بالانتشار على ذات المواقع دون أي عوائق تُذكر.
اللافت أنّ الرقابة لم تكن فقط من "الخوارزميات"، بل حتى من بعض الأنظمة العربية، كما يقول أيمن (فضّل عدم الكشف عن اسمه الكامل)، من قلب خانيونس بغزة؛ الذي اّتهم بعض الدول بـ"فرض قمع اتصالي على شبابها"، مردفا أنّها بذلك: "منعت أي تضامن افتراضي مع غزة".
في السياق ذاته، رصدت "عربي21" أنّه، خلال عامين:
- أحيانا لا يتم حذف المنشور الفاضح لجرائم الاحتلال في غزة ولكن يُمنع نشره/ أو وصوله للمُتابعين، ولو كان للنّاشر الآلاف من المتابعين أو حتّى الملايين.
- أفادت شركة ميتا بأنها تعتمد على موظفين يراجعون المحتويات العربية والعبرية الخاصة بتطورات العدوان على غزة، بسبب ظُهور نماذج للتحايل على طرق عمل الخوارزميات (طبعا بغرض الحد من المنشورات الفاضحة لجرائم الاحتلال في غزة).
- عند حذف المنشور الدّاعم لغزة، يمكن لصاحبه الاعتراض عبر مراسلة الشركة، لكن في حالة ثبوت تعارض المنشور مع سياسة الموقع أو الشركة يتم إيقاف الحساب جزئيا أو كليا.
البطيخ والرموز: تكتيك المقاومة الرقمية
في عامين من عدوان الاحتلال الإسرائيلي الأهوج على كامل قطاع غزة المحاصر، حيث انتُهكت القوانين والمواثيق الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان، ولم يُرحم لا بشرا ولا حجرا، وسقط الشهداء بالمُباشر، أمام مرأى العالم وسمعه؛ كما تطوّرت أدوات القمع، قد تطورت المقاومة الرقمية، أيضا.
في وجه الرقابة، رصدت "عربي21" كيف لجأ الفلسطينيون ومناصروهم إلى رموز بديلة مثل "إيموجي البطيخ"، الذي يرمز إلى العلم الفلسطيني بألوانه (الأحمر، الأخضر، الأبيض، والأسود)، لتجاوز أنظمة الحظر الآلي.
كذلك، دُشّنت حسابات مثل "شهداء غزة" على موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، بغرض توثيق قصص الشهداء بأسمائهم وصورهم وأحلامهم، رافعة شعار: "لأنهم ليسوا أرقاما". وفي أيام قليلة فقط، تجاوز الحساب 35 ألف متابع قبل أن يُحذف من الموقع، ضمن ما وُصف بكونه "إبادة رقمية".
وبحسب الباحثة في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، لمياء العمراني، فإنّ "غياب قواعد تحدد المسؤولية الجنائية والمدنية يؤدي عمليا إلى تشتت سبل الانصاف وإضعاف قدرة الضحايا على المطالبة بالمساءلة".
وأوضحت العمراني، وهي حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية: "تبرز استحالة ضمان احترام قواعد القانون الدولي الإنساني، عندما تنقل أجزاء أساسية من قرار الاستهداف إلى خوارزميات. وعلى المستوى الأخلاقي، فيطرح تفويض مهام من هذا النوع لأنظمة غير بشرية، أسئلة حول شرعية سحب مسؤولية اتخاذ قرار القتل من الإنسان، وهو ما يتناقض مع مبادئ الإنسانية وفق يحميها النظام الدولي".
من أداة حرب إلى وسيلة فضح
المفارقة الكبرى التي رصدتها "عربي21" على مدار عامين، هي أنّ: "الذكاء الاصطناعي، الذي استُخدم من أجل استهداف الفلسطينيين، أُعيد توظيفه بيد الناشطين والمبرمجين، من أجل فضح الجرائم".
في السياق نفسه، تمّ إنشاء أنظمة تحليل بيانات لـ"رصد الغارات وتوثيق مواقع القصف، بناء على صور الأقمار الصناعية وبيانات من شبكات المحمول، وأخرى لتوثيق الانتهاكات الحقوقية، اعتمادا على الأدلة البصرية والمسموعة عبر أدوات التعرف الصوتي وتحليل الصور".
وقال عدد من المتابعين لمجرى الأحداث بقلب القطاع المحاصر، عبر تعليقات ظلّت تتسارع على مدار العامين، في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، إنّ: "ما يحدث ليس فقط حربا على الأرض، بل على الرواية. ومن يسطّر الرواية في هذا العصر هو نفسه من يتحكم في الأدوات الرقمية، سواء كانت خوارزميات أو نماذج لغوية أو بيانات ضخمة".
جيل Z والوعي المتنامي: من المستهلك إلى المُسائل
في خضم هذا الواقع، يبرز جيل جديد من الشباب العربي، ممّن يرفض أن يكون مجرّد مستهلك صامت. "جيلZ" بات يستخدم الإنترنت كسلاح مضاد، يُنظم حملات تضامن، يُنشر أدلة الإبادة، ويكشف زيف "الخوارزميات المُتواطئة".
من خلال "تيك توك"، "إنستغرام"، و"ديسكورد"، تُنشر شهادات حيّة من غزة، ويُعاد تشكيل الخطاب الإعلامي بما يناقض رواية الاحتلال الإسرائيلي. هذا الجيل بات واعيًا بعمق العلاقة بين التكنولوجيا والسلطة، بين الخوارزمية والرواية، بين المحتوى والحقيقة.
وبحسب الباحثة في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، في حديثها لـ"عربي21" فإنّ: "هذه الدينامية الرقمية أسفرت عن إنجازات ملموسة ذات أثر داخلي ودولي. إذ نجحت الحملات الرقمية، خاصة تلك المعتمدة على الهاشتاغات والصور الحية، في لفت أنظار الرأي العام العالمي بسرعة كبيرة، وخلق تفاعل شعبي واسع في أوروبا وأمريكا وإفريقيا".
"كما ارتبط هذا الزخم الرقمي بحملات ضغط مؤسسي واقتصادي، إذ ساهمت التعبئة الرقمية في تنشيط حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS)، وأثرت على قرارات عدد من الشركات والصناديق الاستثمارية، التي اضطرت إلى مراجعة علاقاتها مع الكيان الصهيوني أو إنهاءها تحت ضغط شعبي دولي متزايد" أكّدت العمراني.
اظهار أخبار متعلقة
ما بعد غزة: اختبار أخلاقي للعالم
ما يجري في غزة ليس مجرد عدوان أهوج من الاحتلال الإسرائيلي، بل اختبار أخلاقي للعالم الرقمي بأكمله. وكشفت "عربي21" كيف أنّ: استخدام الذكاء الاصطناعي في الإبادة الجماعية ضد غزة، فتح الباب أمام أسئلة مُرعبة، أبرزها: هل يمكن للآلة أن تُبرّئ الإنسان من جرائمه؟ ومن يحاسب الخوارزمية إذا كانت مخطئة أو منحازة؟.
ومن بين الخلاصات التي توصّلت إليها "عربي21" خلال عامين من الإبادة الجماعية التي اقتُرفت في حق الغزّيين، هي أنّه: "فيما تلهث الشركات التكنولوجية خلف الأرباح، تغيب المسؤولية الأخلاقية. وبينما تتغنّى هذه الشركات بـ"الحياد التكنولوجي"، فإن أدواتها تُستخدم في تصفية أحياء بأكملها في القطاع المحاصر".
لكن على الضفة الأخرى، تؤكّد جُملة من التطوّرات الجارية على متخلف مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا في الميدان (مسيرات تضامنية مع غزة عبر العالم) تظهر بارقة أمل، بكون: "الذكاء الاصطناعي ذاته الذي صُمّم لدعم الجريمة، بات سلاحًا بأيدي المظلومين، لتوثيق، وفضح، وتثبيت الرواية".
إلى ذلك، حين غنّت النساء الفلسطينيات، في ثلاثينيات القرن الماضي، أغنية مشفّرة تُعرف بـ"المللاة" لإيصال رسائل إلى الفدائيين، مموّهة بالحروف حتّى لا يفهمها المستعمر. اليوم، في 2025، يُستخدم "البطيخ" و"الرموز" و"الذكاء الاصطناعي" لنقل الحقيقة من تحت الركام.
ربما تغيّرت الأدوات، لكن الجوهر واحد: من يُجيد التشفير، ينجو من الرقابة، ومن يُجيد الحكاية، يكتب التاريخ.