في مطلع
الثمانينيات، كان بعض القادة
العرب يعتقدون أن توقيع اتفاقيات
السلام مع الاحتلال
الإسرائيلي قد يكون بوابة لمرحلة جديدة من الأمن والاستقرار، وأن الأرض المحتلة
يمكن استعادتها عبر التفاوض والمفاوضات.
جاءت
اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978 لتؤسس لهذا التصور، وتلتها اتفاقية
أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، ثم اتفاقية وادي عربة بين
الأردن وإسرائيل عام 1994. كلها قُدّمت على أنها "مفاتيح سلام" و"نهايات
للصراع"، غير أن التطورات اللاحقة أثبتت أن تلك الاتفاقيات تحوّلت عمليا إلى
أدوات وظيفية تُستخدم في المشروع الصهيوني لتكريس الاحتلال، وتوسيع الاستيطان،
وتمهيد الطريق للتهجير الجماعي تحت غطاء "السلام".
الاتفاقيات
الثلاث لم تَبنِ سلاما حقيقيا، وإنما أدّت إلى تفكيك الجبهة العربية، وتجريدها من
أوراق قوتها الاستراتيجية. مصر أُخرجت من الصراع منذ كامب ديفيد، والسلطة
الفلسطينية أُضعفت وتحولت إلى وكيل أمني بموجب أوسلو، بينما فُتحت الحدود
الاقتصادية والثقافية بين إسرائيل والأردن عبر وادي عربة دون استعادة حقيقية لحقوق
الفلسطينيين أو كبح للاستيطان.
المأزق الاستراتيجي اليوم هو أن هذا "السلام" بات بلا غطاء شعبي، وبلا صدقية، وباتت اتفاقياته أدوات علنية لتصفية القضية الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين كـ"سكان فائضين" يجب إخراجهم من المعادلة
الأخطر من
ذلك أن هذه الاتفاقيات منحت إسرائيل غطاء سياسيا وشرعيا للاستمرار في تهويد القدس،
وابتلاع الضفة، وخنق غزة، وفرض أمر واقع جديد: "الحدود الأمنية لإسرائيل هي
ما تفرضه القوة، لا ما ترسمه الخرائط".
لقد أثبتت
إسرائيل أنها لا ترى في هذه الاتفاقيات إلا أوراقا مرحلية تُستخدم في الوقت
المناسب ثم تُلقى جانبا. كامب ديفيد لم تمنع إسرائيل من ضرب مصر ثقافيا وإعلاميا
وأمنيا، وأوسلو لم تُوقِف الاستيطان يوما، بل ازدهر في ظلها، وأصبحت مناطق (C) في الضفة الغربية مرتعا للمستوطنات، ووادي
عربة لم تحمِ الأردن من الأطماع، بل تحوّلت الحدود إلى شريان للاختراق السياسي
والاقتصادي، وبدأ الحديث عن الوطن البديل يتجدد كل مرة تتقدم فيها
مشاريع التهجير
من الضفة.
في
السنوات الأخيرة، ومع اندلاع الحروب على غزة، وتعثر مسار "حل الدولتين"،
تحوّل المشروع الصهيوني نحو ما هو أبعد من الانسحاب أو التعايش، إلى الضم الكامل،
بل والتهجير الممنهج. فالحديث المتزايد عن نقل سكان الضفة نحو الأردن، ونقل سكان
غزة إلى سيناء، لم يعد مجرد تسريبات، بل بات خطابا رسميا لبعض قادة الاحتلال،
ويجري التمهيد له إعلاميا ودبلوماسيا و"سلاميا".
في العقل
الاستراتيجي الإسرائيلي، السلام لم يكن يوما هدفا بحد ذاته، بل وسيلة لشرعنة مشروع
السيطرة. إسرائيل أرادت من هذه الاتفاقيات تقطيع أوصال الجبهة العربية، وعزل
الفلسطينيين عن عمقهم، وضرب قوى
المقاومة، وتحويل الأنظمة إلى شركاء أمنيين لا
خصوم سياسيين. وقد نجحت في ذلك، لكن المأزق الاستراتيجي اليوم هو أن هذا "السلام"
بات بلا غطاء شعبي، وبلا صدقية، وباتت اتفاقياته أدوات علنية لتصفية القضية
الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين كـ"سكان فائضين" يجب إخراجهم من
المعادلة.
على الشعوب العربية أن تعود إلى الواجهة، وأن تُدرك أن مواجهة المشروع الصهيوني لم تعد خيارا، بل ضرورة وجودية
المنطقة
اليوم تقف على أعتاب تحوّل كبير، فإما أن تُراجع الأنظمة العربية موقفها من تلك
الاتفاقيات، وتستعيد زمام المبادرة، وتبني خطابا جديدا يواجه مشاريع التهجير، ويضع
خطوطا حمراء لنهب الأرض والحقوق، أو تواصل التماهي مع المشروع الصهيوني، فتفقد ما
تبقى من شرعيتها.
الرد
الحقيقي لا يكون ببيانات الشجب، بل برفع الغطاء السياسي عن تلك الاتفاقيات، ودعم
المقاومة بكل أشكالها، وبناء تحالفات عربية- إسلامية جديدة قادرة على ردع العدوان،
ورفض منطق الإذعان والتبعية.
الحديث
اليوم عن تهجير الضفة إلى الأردن وغزة إلى سيناء؛ لم يعد مجرد وهم، إنه هدف
استراتيجي لإسرائيل يتم تغليفه إعلاميا بـ"الخوف من حماس" أو "ضرورات
الأمن القومي"، لكنه في الحقيقة استمرار لمخططات التهجير التي بدأت منذ 1948،
وتُنفذ كل عقد بوجه جديد.
والمفارقة
أن هذه المشاريع لا تزال تجد سندا -لا اعتراضا- في بعض من وقعوا على تلك
الاتفاقيات، أو سكتوا عنها طيلة عقود، وهو ما يفرض على الشعوب العربية أن تعود إلى
الواجهة، وأن تُدرك أن مواجهة المشروع الصهيوني لم تعد خيارا، بل ضرورة وجودية.