في الوقت الذي أعلنت فيه
مصر من داخل أروقة الأمم المتحدة، السبت الماضي، عدم تفريطها في حقوقها المائية بنهر النيل؛ تسعى إثيوبيا لتشكيل تكتلات عسكرية وسياسية واقتصادية مع دول جنوب الحوض، في توقيت وصل تأزم علاقاتها مع القاهرة إلى قمته، عقب افتتاح "سد النهضة" رسميا، بتاريخ 9 أيلول/ سبتمبر الجاري.
يثير "سد النهضة" الذي تبنيه أديس أبابا على النيل الأزرق منذ نيسان/ أبريل 2011، ولمدة 14 عاما ونصف، مخاوف المصريين والسودانيين من حجب حصص بلادهم التاريخية من مياه النيل (55.5) و(18.5) مليار متر مكعب سنويا، خاصّة مع البيانات الحكومية التي تشير لخطورة وضع القاهرة والخرطوم اللتين تعتمدان على مياه النيل بنسبة (97) و(77) بالمئة على التوالي.
وهذا الأسبوع، تفجّرت أزمة جديدة كشفت عن أولى الأضرار، عقب افتتاح السد بنحو 20 يوما، وذلك مع زيادة تدفق المياه من السد لـ730 مليون متر مكعب يوميا، ما دفع وزارة الرّي السودانية لإطلاق "إنذار أحمر" بطول الشريط النيلي تحسبا لفيضانات قد تجرف المنازل، والأراضي، وتهدد حياة السودانيين، وتعرض "سد الروصيرص" لخطر الانهيار.
رسالة مصرية
أكد وزير خارجية مصر، بدر عبد العاطي، من على منصة الأمم المتحدة، السبت الماضي، أنّ: "إثيوبيا توهمت أن مصر ستنسى حقوقها ومصالحها الوجودية بنهر النيل"، مشددا على أنّ: "القاهرة قادرة على حماية حقوقها".
وأضاف وزير الموارد المائية والري المصري، هاني سويلم، خلال لقاء تلفزيوني الأحد، أنّ: "مصر لن تسمح لأي دولة بفرض "أوهام الهيمنة" على مياه النيل أو استخدامها للتحكم السياسي في المنطقة.
تحالفات إثيوبية
في السنوات الماضية، تسارعت الخطى الإثيوبية لإنهاء بناء السد وسط إعراض من ساستها عن توقيع اتفاق ملزم لها مع دولتي المصب، حول تشغيل السد في سنوات الفيضان والجفاف، رغم وساطات دولية وقارية وعربية.
في الوقت ذاته، توجّهت الدولة الأفريقية الحبيسة بشرق القارة والغنية بالمياه والأمطار فوق هضبة يصل ارتفاعها (4550 م)، نحو تشكيل تحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية مع دول حوض النيل، وخاصة
كينيا (جنوبا)، وجنوب السودان (غربا).
جاء ذلك إلى جانب إبرام إثيوبيا تحالفات مع إقليم "صوماليلاند" المنشق عن مقديشو وغير المعترف به دوليا شرقا، ومع دولة تشاد غرب السودان، التي تعد حكومتها من أبرز الداعمين لقوات "الدعم السريع" المناوئة لحكومة الخرطوم منذ عامين ونصف.
وإثر مرور 3 أسابيع على افتتاح السد الإثيوبي، شهدت أديس أبابا، الخميس الماضي، أحدث التحالفات، بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك وتبادل للمعلومات الاستخباراتية مع جارتها الجنوبية كينيا، بهدف تعزيز الأمن بمنطقتي القرن، والشرق، الأفريقي، ما يثير علامات الاستفهام حول ما إذا كان هذا التحالف العسكري موجها إلى مصر والسودان.
في ذات السياق، نجحت إثيوبيا في تقليل مخاوف جارتها الصومال منها، بعدما شهد العام الماضي، تأزما بين الجانبين، على خلفية رغبة إثيوبية في الحصول على ميناء على البحر الأحمر من إقليم صوماليلاند.
حينها دفع تطور الأحداث مقديشو للاستعانة بالقاهرة، التي عقدت اتفاقية دفاع مشترك مع الصومال في آب/ أغسطس 2024، وقرّرت القاهرة الدفع بقوات عسكرية إلى الصومال ضمن قوات الاتحاد الأفريقي في تحرك أغضب أديس أبابا، التي غيرت مواقفها واستقبلت الرئيس الصومالي حسن شيخ مطلع العام الجاري، ودعته لحضور حفل افتتاح السد الإثيوبي.
وفي المقابل، تحرص القاهرة على علاقات جيدة، مع دول الطوق الإثيوبي، وخاصة إريتريا، التي تدعم الموقف المصري في نزاع مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي، والتي تشهد علاقاتها بشكل دائم حالة من التوتر مع إثيوبيا رغم توقع اتفاق سلام "جدة" عام 2018.
أدوار كينية مثيرة
بينما تشهد العلاقات المصرية الكينية تفاهمات واتفاقيات جاء حضور الرئيس الكيني، ويليام روتو، حفل افتتاح السد الإثيوبي محبطا للقاهرة، وفق ما نقلته صحيفة "ذا كينيا تايمز" في 24 أيلول/ سبتمبر الجاري، عن سفير مصر بنيروبي حاتم يسري، الذي أعرب عن خيبة أمل مصرية من مشاركة كينيا في إطلاق المشروع.
ويصف مراقبون العلاقات الكينية مع مصر، بأنها شراكة استراتيجية متنامية تتركز على التعاون التجاري والأمني والتنسيق الإقليمي في قضايا حوض النيل والاتحاد الأفريقي، لكن يرى آخرون أن نيروبي، تلعب أدوارا في الملف السوداني قد تضر بالأمن القومي المصري.
على الجانب الآخر، يصف محللون علاقات السودان وكينيا بأنها متوترة وتشهد تباينا كبيرا في المواقف السياسية تضاربا في المصالح، خاصة فيما يتعلق بالأزمة الداخلية في السودان وقضايا إقليم شرق أفريقيا، ملمحين إلى تحركات لنيروبي أضرت بالأمن القومي السوداني، ولها تأثيرات سلبية على الأمن المائي لمصر.
ووقع رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، والرئيس الكيني في القاهرة 29 كانون الثاني/ يناير الماضي، اتفاقات مشتركة لتعزيز العلاقات والتعاون، والتجارة بأكثر من نصف مليار دولار، إلى جانب اتفاقيات دفاعية وبرتوكولات لـ"مكافحة الإرهاب".
في الشهر التالي، استقبلت نيروبي، مؤتمرا، يناقش إقامة حكومة سودانية موازية في الخارج ما أغضب الخرطوم، التي تدعمها القاهرة بمواجهة "قوات الدعم السريع" التي تشن حربا -بدعم إماراتي- على حكومة الخرطوم، منذ نيسان/ أبريل 2023، ما تسبب في 26 ألف حالة وفاة ونزوح قسري لأكثر من 12 مليون سوداني، بينهم من 4 إلى 5 ملايين لاجئ لمصر وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا.
وفي 18 شباط/ فبراير الماضي، استضافت العاصمة الكينية فصائل سودانية مسلحة تتبع قوات الدعم السريع، ومعها عدة حركات وتجمعات سياسية أخرى معارضة لحكومة الخرطوم التي اتهمت الحكومة الكينية بالإضرار بالأمن القومي السوداني.
اظهار أخبار متعلقة
اللاعبين وليس الأدوات
الباحث السياسي، عبد المجيد الجمال، وفي قراءته لدلالات توقيت الاتفاقية الإثيوبية الكينية ومدى علاقتها بمصر والسودان، قال إنّ: "القصة ترجع إلى اللاعبين المحركين وليس الأدوات".
وأضاف لـ"عربي21"، أنّ: "هذا ينقلنا إلى مساحة أوسع وأهم، وهي دائرة تضييق دول خليجية على مصر"، موضحا أن "هذه المسألة يتزعمها الجميع، وإن كان رأس الأمر فيه دولة الإمارات".
لا تثير حفيظة مصر
بخصوص التوجه الإثيوبي الكينيي نحو التعاون العسكري في توقيت تأزمت فيه علاقات القاهرة وأديس أبابا، قال الأكاديمي المصري، عباس شراقي، لـ"عربي21": "إثيوبيا تحاول تقوية نفسها في القرن الأفريقي وشرق القارة وتسعى للوصول لمنفذ بالبحر الأحمر وحاولت مع إقليم صوماليلاند، وزاد مؤخرا التوتر بينها وبين إريتريا".
ويرى شراقي، أنّ: "عمل علاقات مع دول الجوار واتفاقيات عسكرية أمر طبيعي بعلاقات الدول، وبالتالي طبيعي بين إثيوبيا وكينيا التي حضر رئيسها وليام روتو افتتاح سد النهضة، رغم تضرر بلاده من إنشاء أديس أبابا 3 سدود وببناء الرابع على نهر (أومو) الذي يصب ببحيرة (توركانا) على حدود كينيا، ومع ذلك عقد اتفاقية عسكرية مع إثيوبيا".
إلى ذلك، أكد الأكاديمي المصري أن "التحركات الإثيوبية لا تثير حفيظة مصر، خاصة وأن القاهرة ليس لديها أية نوايا للدخول في صراعات عسكرية مع إثيوبيا، حتى أن إرسال قوات مصرية للصومال لم يكن الهدف منه إثيوبيا، بل هي قوات تابعة للاتحاد الأفريقي وفق تنسيق جاري، لكن أديس أبابا تلقت الموقف المصري بحساسية".
ولفت إلى أنّ: "مصر لا تنظر إلى مثل تلك الاتفاقيات أو التحالفات بصورة عدائية، ولكنها تسعى للوصول إلى جميع دول الحوض بعلاقات ودية"، ملمّحا إلى أنها "عقدت اتفاقيات تعاون منها عسكري مع الصومال آب/ أغسطس 2024، ورغم ذلك شارك الرئيس الصومالي بافتتاح السد الإثيوبي، ويقول إن تقاربه مع إثيوبيا لا يقلل من علاقاته مع مصر".
اضطرار الأمر الواقع
أضاف: "أيضا، مصر عقدت اتفاقيات قوية مع السودان وجرت عدة مناورات عسكرية مشتركة في قاعدة مروي وغيرها، ولدينا علاقات جيدة مع جيبوتي وإريتريا وجميع ذلك في إطار تقوية علاقاتنا بدول جوار إثيوبيا، التي لا أعتقد أن يكون سعيها إلى ذلك الاتفاق مع كينيا أن ستخوض حربا".
وفي إجابته على السؤال: هل تقوم كينيا بأدوار في جنوب حوض نهر النيل لصالح إثيوبيا وبمواجهة مصر، يقول الأكاديمي المصري: "نيروبي استضافت الدعم السريع بما يضر الأمن القومي المصري والسوداني".
وبين أن "السياسة الكينية يشوبها بعض عدم الوفاق مع مصر مؤخرا، وكذلك دولة جنوب السودان التي وقعت اتفاقية (عنتيبي) تموز/ يوليو 2024، وضحت بمصر وسط إغراءات لا تمتلكها إثيوبيا، وقد تكون دولة أخرى أغرتها بهذا التصرف الذي أدخل اتفاقية ترفضها القاهرة حيز التنفيذ".
في نهاية حديثه أكّد أن مصر أمام اضطرار التعامل مع جميع دول نهر النيل بقدر عال من الذكاء السياسي، وبينها كينيا وجنوب السودان كونهما من دول الحوض، ولو أرادت مصر أن تقيم مشروعا لزيادة إيرادات نهر النيل لابد من التعاون معهما".
اظهار أخبار متعلقة
دول عدائية.. وتحالفها موجه للسودان
في رؤية سودانية، قال الكاتب والباحث السوداني وائل نصر الدين، إن "كينيا وإثيوبيا ينسقان سويا بصورة مستمرة في ملفات عديدة، ويتعاونان معا في الملف السوداني، وخلال الحرب السودانية الحالية كانت كينيا وإثيوبيا تريد التحجج بالوضع الإنساني للتدخل العسكري في الخرطوم، منتصف 2023".
وأضاف لـ"عربي21": "معروف أنهما من الدول العدائية؛ لكن إثيوبيا تتمتع بقدر أكبر من الذكاء السياسي الذي لا تتمتع به كينيا، فأديس أبابا تختبئ تحت مظلة الاتحاد الأفريقي ومقره العاصمة الإثيوبية، ومنظمة الايجاد (مقرها جيبوتي)، لكن كينيا تشتغل علنا بدون واجهات".
ويرى نصر الدين، أنّ: "هذا التحالف موجه بصورة ما إلى السودان، أكثر منه إلى مصر، وذلك نظرا للتاريخ العدائي بين نيروبي والخرطوم، خاصة وأن كينيا كانت تدعم انفصال جنوب السودان عن السودان الأم عام 2011".
ويعتقد أن "كينيا إحدى الدول الوظيفية في شرق أفريقيا وتعمل لصالح أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، وهي واحدة من الدول الأفريقية القليلة التي أيدت إسرائيل في عدوانها على غزة، وتوجهاتها العدائية معروفة تجاه العرب والمسلمين، والنخبة الحاكمة في نيروبي تابعة بصورة كبيرة لتل أبيب وواشنطن، وهي مركز الموساد بشرق أفريقيا كما أن أديس أبابا مركز الموساد بالقرن الأفريقي".
وفي قراءته لخبر الاتفاق الإثيوبي الكيني، اعتبر الناشط السياسي المصري، أشرف أيوب، أنه: "تكتل عسكري ضد مصر".