يُحكى
في الحكمة الصينية أن فأرا كان يعيش في مخزن غلال يأكل كل ليلة قليلا من الحبوب في
هدوء وصمت، لم يشعر به صاحب المخزن، فعاش الفأر في أمان مكتفيا بالقليل الذي يسد رمقه،
لكن الطمع دبّ في قلبه يوما فأخذ ينهش من كل كومة بنهم يحدث الضوضاء ويبعثر الحبوب،
وحين ثقل بطنه وتباطأت حركته انكشف أمره وسقط في يد صاحب المخزن لينتهي مصيره إلى الهلاك.
هذه الحكاية
ليست عن فأر وحسب، بل عن وطن عندما نهشه الجشع. وما أشبه مصرنا بهذا المخزن الذي اعتاد
العسكر أن يقضموا منه في الخفاء.
فمنذ عام
1952 حينما أمسكوا بخيوط السلطة باسم الثورة راحوا يمدّون أيديهم إلى كل ما يدرّ عليهم
نفوذا أو مالا. كانت السرقة موجودة نعم، لكنها بقيت في حدود المستور كالفأر الذي يقنع
بالقليل حتى لا ينكشف.
النظام اليوم لم يكتف بما ورثه من امتيازات، بل أطلق شهية بلا قيد؛ الأرض تباع في وضح النهار، الموانئ ترهن بعقود طويلة، الثروات الطبيعية يفرط بها لصالح الغريب
لكن ذلك
العهد انتهى لم يعد هناك قناع ولا حياء، رأس النظام اليوم لم يكتف بما ورثه من امتيازات،
بل أطلق شهية بلا قيد؛ الأرض تباع في وضح النهار، الموانئ ترهن بعقود طويلة، الثروات
الطبيعية يفرط بها لصالح الغريب.
لم يعد
الوطن يُدار كبلد له كرامة، بل كمخزن مفتوح ينهش فيه أصحاب السلطة حتى العظم. لم يقف
الأمر عند حدود الأرض والثروة، بل صار
الاقتصاد نفسه ساحة لهيمنة شاملة. جيش وُجد ليحمي
الحدود تحوّل إلى تاجر يبيع ويشتري ينافس في الأسواق ويحتكر السلع، مصنع هنا وشركة
هناك، مشروع ضخم لا يُعرف جدواه سوى أنه يملأ خزائن السلطة..
أما المواطن
البسيط فيسحق بالضرائب والديون وارتفاع الأسعار، فيما القصور تبنى والصفقات تعقد والديون
تتراكم حتى صارت أثقالها تكبل مستقبل أجيال كاملة.
هكذا يتصرفون
كفأر أعماه الطمع، لم تعد سرقة حفنة قمح تكفيهم، الحذر لم يعد يكفي غرورهم، أرادوا
كل شيء دفعة واحدة السلطة المطلقة الثروة المطلقة السيطرة المطلقة، لكن ما غاب عنهم
أن الجشع لا يحفظ البقاء بل يسرّع النهاية.
ما دامت مصر تباع قطعة قطعة فإن لحظة الانكشاف قادمة لا لأنها معجزة، بل لأنها حتمية، فلا وطن يصمد أمام النهب ولا نظام يدوم وهو يلتهم قلب الوطن
فحين ينهار
الاقتصاد وحين يهرب الشباب من وطنهم يأسا، وحين يعجز الناس عن ملء بطونهم، يصبح الغضب
الشعبي نارا تحت الرماد.
التاريخ
علّمنا أن الشعوب قد تصبر طويلا، لكنها لا تساق إلى الذبح إلى الأبد. وما دامت
مصر
تباع قطعة قطعة فإن لحظة الانكشاف قادمة لا لأنها معجزة، بل لأنها حتمية، فلا وطن يصمد
أمام
النهب ولا نظام يدوم وهو يلتهم قلب الوطن.
إنهم يخربون
الوطن لأنهم لا يرون فيه وطنا، بل يرونه مخزن غلال، يرونه غنيمة يرونه غطاء لثرائهم
وسلطانهم. لكن كما
انتهت حكاية الفأر لا يمكن للجشع أن يستمر بلا نهاية، فحين يثقل بطن اللص الطماع وتبطء
حركته، وحين تتراكم الديون ويتعرّى الاقتصاد ويستفحل الفقر، سيأتي بالتأكيد صاحب المخزن
ليمسك الفأر وتكون نهايته.
قد يتأخر
الأمر وقد تتعقد مساراته، لكن النتيجة حتمية؛ الأوطان ليست مخازن غلال والشعوب ليست
فرائس صامتة والتاريخ لا يرحم من خانوا أمانته.